يبتلع كل شيء ثم لا يلبث أن يتقهقر من جديد أمام ضوء النهار، وتواصل الشمس رحلتها اليومية من جديد عبر الأفق؛ والكواكب والنجوم كل في فلك يسبحون، لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا القمر بمقدوره أن يبلغ الشمس. تغمر الأرض مياه الأمطار ثم لا تلبث أن تتلاشى في شعابها، وإن من الحجارة والصخر لما يتفجر منه ماء عذب سلسبيل، وإن من البذرة الضئيلة المدفونة في باطن الأرض لتخرج دوحة وارفة الظلال.
وهنالك الزلازل والبراكين والأعاصير تقض مضجعه وتجلب الخراب والدمار دون أن يستطيع لها دفعاً.
والموت يرزأ الكائنات فيخرسها ويسكتها سكوتاً أبدياً؛ وبطون الأمهات تأتي إلى العالم بمخلوقات جديدة من حيث لا يدري ولا يحتسب.
أمور تثير العجب والدهشة، وتدعو الطفل أو البدائي أو المتحضر إلى التأمل بغية الاهتداء إلى سرها.
أما البدائي القديم فيرتعد فرقاً من هذه الظواهر مجتمعة أو من بعضها على أقل تقدير، وذلك لقوتها وحتميتها وضعفه إزاءها وجهله بحقيقتها. ولكنه رغم خوفه منها، مشدوه بجبروتها، معجب بقدرتها، طامع في نعمتها، فناسب إياها إلى فعل إرادة خافية يتصورها على نحو ما يتصور إرادته هو، أو قوة مستورة، أو روح عظيم يحرك العالم دون أن يتبين، ويدبر الكائنات والأحداث على نحو تحريك أرواحنا للجسد، وتدبير نفوسنا للوظائف الحيوية. هذه القوى أو الأرواح أو النفوس أو الآلهة، لا بد أن تعبد ولا بد أن يبتهل لها ويتوسل إليها. ومن هنا كانت الطقوس والسحر والتعاويذ والعادات الغريبة، ومن هنا كان تفسير البدائي للظواهر التي يدركها يستند إلى خيال جامح، ويهتدي بخليط عجيب من المخاوف والرغبات ومتباين العواطف والأهواء، ويتنكب أية محاولة لدراستها دراسة واقعية موضوعية خوفاً وفرقاً من ناحية، واقتناعاً أو بالأحرى إيماناً ويقيناً بما أوحت به مخيلته وما صورت له التقاليد الموروثة من تفسيرات. تجد هوى في نفسه ولدى عقليته الساذجة قبولاً من ناحية أخرى.
وهذا هو السر فيما يتسم به التفكير البدائي من تناقض، وفيما تصادف التفسيرات الخرافية من قبول ويقين مكين لدى الإنسان في بداوته.