في أبي منذ أن كان صبياً واشتد غراسها على الأيام، تغذيها حياة الريف وهي هادئة رتيبة في منأى عن مصطرع الحياة ومعترك النوازع، فما تكالب على المادة من حرص، ولا اندفع في غمرات الدنيا من جشع، ولا تزاحم على نفع من طمع، ولا خلبه المال من شهوة؛ فعاش على حيد الحياة يأخذ نفسه بالزهد والقناعة، ويروضها على التقشف والخشونة، ثم لا يحفل - من بعد - أفاضت غلات أرضه عن جود وسخاء، أم ضنت عن شح وضيق. ونحن - أنا وأنت - فرحة قلبه، وبهجة فؤاده، ونور عينيه، يضمنا حنانه، ويرسلنا عطفه، ومنتهى أمانيه أن يرانا - إلى جانبه - رجلين!
وكنت أنا أكبر ابنيه، وأحس أبي - والسنون تمر - أنه في حاجة إلى من يتخذه رفيقاً وصاحباً وعوناً، فتلفت فإذا أنا إلى جانبه، فالقي بأعباء الحياة بين يدي وقال:(احمل)! فحملت العبء وحدي وأنا ما زلت في سن الصبا وفورة الشباب! حملت العبء وانصرفت عن المدرسة في نشوة وطرب، تكتنفني خواطري الصبيانية، وفي نفسي أنني رجل وأنني رب هذا البيت، وما فيه غير أبي وهو بين صلواته وتسابيحه في شغل، وغيري وبين يدي شئون الدار والغيط أصرفها كيف أشاء، وأنت في المدينة تلميذاً بالمدرسة الابتدائية. وأخذني أبي - رحمه الله - بالنصح في غير غلظة ولا جفوة، وأنا اهتدي مرة وأضل مرة، وهو من ورائي يدفعني إلى غاية!
وعشت فلاحاً بين فلاحين، ابذر الحب وأرجو الثمار من الرب
ومرت الأيام تشعرني بأن أبي هو صاحبي، وأنك أنت - يا أخي - ابني، وأنني صاحب الدار والأرض والغلة جميعاً.
وأحس أبي مني الرجولة، فراح يزين لي أن أتزوج من فتاة من ذوى قرابتي لنجد ريح المرأة في الدار بعد جدب؛ والمرأة تشيع في الدار الحياة والحركة، وتبعث فيها النظافة والنظام، وتنفث فيها السعادة والمرح؛ وهي تشد أزر الرجل وتعينه على شواغله وتمسح عنه وعثاء الحياة وعناء العمل، وأصغيت إلى حديث أبي وفي النفس نوازع جارفة تدفعني إلى أن ألبي رغبته، ولكني رفضت في رفق وأنا أقول:(يا أبي، أن الزوجة تصرفني عن أخي وهو في المرحلة الأخيرة من الدراسة، وأنا أخشى أن تشغلني الزوجة عن أن أوفر له حاجاته - وما بنا ثراء - فينهار البناء أو يوشك وهو أملنا). . . وسكت أبي وسكت. . . .