وقضيت سنوات شبابي الأول أبذل غاية الجهد في الغيط لأوفر لك حاجاتك في البيت وفي الجامعة، وهي تزداد رويداً رويداً على حين تعصرنا أزمات عنيفة من الخمود الاقتصادي الذي سبق الحرب العالمية الثانية، ومن هبوط أسعار المحاصيل إلى درك لا تكفي معه غلات أفدنة أن تسد حاجة طالب واحد، وللجامعة طلبات تقول للطالب: إما أن تكون غنياً أو تكون جاهلاً! ورضينا - أنا وأبي - أن نقنع بالقليل ونجتزئ بالتافه، أشعر بالضيق في صبر، وأحس الحاجة في تعفف، وأنا شاب تتجاذبني أطراف الحياة وملذاتها فأدفعها عني، أدفعها لأنك أنت تستنفد كل مالنا في غير شفقة ولا رحمة!
أما أنت - أيها الفتى المدلل - فقد تخرجت في الجامعة، وما تذوقت طعم الحاجة، ولا أحسست مس الضيق، وقضيت أيام المدرسة في هدوء وطمأنينة، نخصك بالشهي من الطعام، وأنا في شظف من العيش؛ ونحبوك بالغالي من اللباس، وأنا أتوارى خلف أسمال؛ وتنعم بالدفء شتاء وبالراحة صيفاً، وأنا أصارع الأجواء في صبر يعركني زمهرير الشتاء ويفريني سعير الصيف. . . ثم توظفت في الحكومة!
ولما مات أبي - رحمه الله - خلت بي تقول:(يا أخي، إنك أنت أخي وأبي في وقت معاً، ولقد نزلت عن رغبات نفسك في سبيلي وأنت في مستهل العمر، والآن لم يبق لي في هذه القرية غير عطفك وحنانك، وغير حبك وإخلاصك، فقم على زراعة أرضي كيف تشاء، ثم اعطني فضل ما يزيد على حاجتك. . .)
وانسرب حديثك إلى قلبي يحفف وطأة الصدمة، ورضينا معاً أن أستأجر منك ميراثك كله (بأجر المثل)، فأكفيك عناء السفر وجهد التحصيل. . .
وبعد سنه واحدة تحدثني حديثاً فيه الرجاء تقول:(يا أخي، إن الأسعار ترتفع في غير هوادة، وإن حاجات العيش في المدينة تكلفني فوق ما أطيق، وأنا أدفع نفسي عن كثير من حاجاتها، فهل ترضى أن نرفع إيجار الفدان إلى كذا وكذا. . . لأجد سعة من المال؟). . . ونزلت عند رأيك، وأنا أحس أن في كلامك شيئاً غريباً علي، وأنه يستر حديثاً بعده، وأن نبرات صوتك تتحدث بأمر. وبرغم أنك تعرف مواسم الدفع والتحصيل، فقد سلكت سبلاً - حين طالبتني بحقك - أشعر معها بالحرج والعنت
وبعد سنة أخرى جئت تقول: (أظنك تعلم - يا أخي - أن إيجار الفدان قد ارتفع إلى كذا