المتحرق للعالم الآخر شوقا أطلق الخيال يجوب في آفاق هذا العالم المجهول، فيرسم صورة لحياة الروح بعد مغادرة الجسد، صورة هي لوحة فنية لا أثر للعقل فيها، ولا فضل للبرهان في تثبيتها، إنما الفضل كل الفضل للخيال الذي أنتجها، والعاطفة الدينية التي ألهمتها.
هذا (أوزوريس) الإله الصالح (رمز الخير والعدالة) يرأس محكمة العدل الكبرى، يجلس على عرشه في صدر قاعة يكلل سقفها القناديل وعلامات الحق، وأمامه أحفاده أبناء (حورس) وآلهة أركان العالم الأربعة، ومعهم اثنان وأربعون قاضياً، بعضهم برؤوس بشرية، وبعضهم برؤوس حيوانية، وعلى راس كل منهم ريشة نعامة رمزا للمعبودة (معت)، ممثلة الحق والاستقامة والعدل، وفي يد كل منهم سيف لقتل الخاطيء، ووظيفتهم ملاحظة ما يظهر في كفتي الميزان الذي يزن الحسنات والسيئات.
وإمام (أوزوريس) وحش مفترس متحفز لافتراس الميت إذا رجحت كفة خطاياه. ثم يقف الميت على باب قاعة العدل خائفا مرتعدا في الساعة الرهيبة التي يقرر فيها مصيره، ويترافع عن نفسه، ثم يصدر الحكم بالبراءة أو الإدانة؛ حتى إذا انتهت المحاكمة أمر (أوزوريس) بالفائزين إلى الجنة وبالخاسرين إلى الجحيم.
هذه أفكار الخلود والثواب والعقاب، كما يصورها كتاب الموتى تصويرا حسيا خياليا، دون برهان ودون تفكير عقلي خالص. . . إنما هي محاولة فكرية لمعرفة ما وراء الموت، ومصير المذنب ونهاية المحسن، محاولة استخدمت فيها الوسيلة الوحيدة التي يسمح بها ذلك الطور من النمو العقلي: طور الخرافة والعاطفة.
وما دمنا بصدد الحديث عن المذنب والمحسن، أو عن الخير والشر فلننتقل إلى (زرادشت)، أبرز حكماء الفرس، الذي عاش في القرن السادس قبل الميلاد، وخلف دينا لا يزال له أتباع حتى اليوم في ربوع الهند وغيرها.
وقف زرادشت حائرا في عالم متناقض فيه الخير والشر، والجمال والقبح، والسعادة والشقاء؛ وأعمل فكره محاولا تفسير شطري الوجود فتصور العالم نهبا لروحين متصارعين: أورموزدا وأهريمان. الأول إله الخير، صانع السماء والأرض والبشر والملائكة الأبرار؛ والثاني إله الشر، علة الموت ومفشي الرذائل ومحدث الأمراض والشياطين. الأول يؤلف مع ملائكته وأتباعه الصالحين حزب الحق، والثاني يؤلف مع