الأعلى (الإلهيات) التي ليست أمورها ذات تعلق بمادة أو حركة والتي تبحث في ذات الواحد الحق وصفاته من هوية ووحدة وعليه. . الخ. وله هو الآخر أصول وفروع لا داعي للإحاطة بها.
أما العلوم العملية فهي التي موضوعها الأفعال التي تشترك مع غيرنا أفرادا وجماعات - وهذه بطبيعة الحال أمور من محض فعلنا وإرادتنا. فان كانت لتدبير يختص بشخص واحد بما يحقق له السعادة فهي علم الأخلاق، وإن كانت تبحث في تدبير الإنسان لأسرته وروجه وولده ومملوكة (خادمه) بما يحقق سعادتهم أيضا فذلك تدبير المنزل، وإن كانت هذه الأمور تتناول صنوف الرياسات والسياسات المجتمعات والمدن الفاضلة فذلك هو علم السياسة. . . هذه هي العلوم العملية عند أبن سينا، وهذه تصنيفه العلوم كلها وتصنيفه الفارابي قبله. والمنطق هنا يجعله أبن سينا مقدمة وآلة للعلوم فحسب، وإن كان في تقسيم كتبه فعلا يجعله القسم الأول منها، ثم يتبعه بالطبيعيات فالإلهيات - على نحو ما بينت لكم من قبل - ونكتفي بهذا التقسيم لأبن سينا؛ لأنه أرستطالي من جهة، ولأنه أدنى إلى موضوعنا في تقسيم النفس إلى نظرية وعملية، من جهة أخرى. وإلا فان له تقسيما آخر مختلفا بعض الشيء (في مقدمة منطق المشرقين) لا داعي لذكره.
ويهمني - ويهم أبن سينا كذلك - أن تميزوا بين أنواع الإدراك المختلفة التي تحصلها كل ملكة من ملكات العقل؛ فان له هنا نظرية في المعرفة جديرة بالاعتبار، ونظرا في طبيعة الإدراك من حيث علاقته بالشيء المدرك. فإذا كان الإدراك هو أخذ صورة المدرك مجردة عن المادة أي نحو من التجريد؛ فإن الحس يدرك الأشياء مع لواصقها المادية، كالتكثر، والانقسام، والكم (العدد) والكيف (الخصائص والصفات) والابن (المكان) والوضع. . . الخ. والخيال يجرد صورة الشيء المدرك من المادة تجريدا تاما تقريباً، يستوي معه وجود الأصل أو عدمه ولكنه لا يجردها من العلائق، بل تظل ملابسة لها في الخيال، أما الوهم فأنه يدرك المعاني التي قد توجد في مادة ولكنها ليست في ذاتها مادية كالخير والشر والملائم وغير الملائم، إدراكا جزئيا لا يبرا من لواحق المادة والحس والخيال. وأما العقل - أو الحاكم العقلي كما يسميه - فيدرك الصور مجردة عن المادة من كل وجه وعن علائقها ولواحقها من أي نوع.