للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ولا يخفى عليكم أن أبن سينا يمهد للدخول في إثبات وجود النفس بوصفها جوهراً مفارقاً للبدن، فيقيم لكم التناقض واضحاً جلياً من مادة الشيء المدرك - حتى في غيبته عن الحس - وجوهرية العقل المدرك؛ بين تعلق هذا الأول بالمادة والمكان والجهة، وتجرد ذلك الثاني منها. يريد أن يخلص من ذلك إلى أنه لا شيء مما يدرك الجزيئات المادية إلا وهو مادي، وإن لا شيء أيضاً مما يدرك الكليات العقلية إلا وهو مجرد، وأن يدلل على أن الإدراك الحسي والخيالي والوهمي - نظراً لتعقلها جميعا بصور جزئية خيالية على نحو ما أسلف القول - فهي إنما تقع بالآلة الجسمانية التي ليست مجردة من المادة ولا مقارقة للوضع الجسمي.

أما الجوهر الذي هو محل المعقولات المجردة فمجرد كذلك من المادية والجسمية فهو ليس جسماً ولا حالا في جسم بوصفه صورة أو قوة له. وحجته هنا تقوم على إنكار ما أثبته في الفصل السابق للقوى الإدراكية الجزئية على القوى المدركة العقلية - أعني الانقسام المادي في القوى الحاملة أو القابلة للإدراك، نتيجة لانقسام المدرك ذاته. فلما كانت المدركات الحسية مقسمة ومتجزئة بدليل أنك تدرك الشيء الواحد - كالإنسان مثلا - متفاوتاً في الكبر أو الصغر، وأن هذا التفاوت لا بد أن يكون من جانب المدرك أو المدرك، فقد كانت القوى الدراكة الجزئية منقسمة كذلك. وإذن فهي في مكان ووضع وجهة، وبالتالي فهي مادية كمدركاتها، متصلة بها غير مفارقة.

وطريقة أبن سينا في إثبات تجرد جوهر العقل من المادة أن يبرهن على أن هذا الجسم الذي سيحل فيه المدرك العقلي أن كان جسما - فهو إما غير منقسم (جزء لا يتجزأ كالذرة - باعتبار ما مضى - وكالجوهر الفرد أو النقطة الرياضية) أو مقدار منقسم فعلاً. فإن كان الأول فهو غير معقول؛ لأن النقطة وهي منفردة لا تقبل شيئا من الأشياء وإلا أصبحت ذات وجهات (حجم) ولم تعد نقطة. ولأنها وهي طرف من خط هي نهايته فلا بد أن يكون لجزء من هذا الخط نصيب مما تقبله؛ وحينئذ يكون للنقطة وجهان أحدهما غير الأخر ومخالف له. فالوجه الذي هو نهاية الخط غير الوجه الملاصق له من الناحية الأخرى. وإلا كانت النقطة منفصلة عن الخط ولم تكن هي نهايته، وهذا خلف مع ما أفترضه من قبل، ومع أبطاله في مواضع أخرى للجوهر الفرد فثبت إذن فساد القول بأن جوهر العقل شيء

<<  <  ج:
ص:  >  >>