للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ثم هنالك الجحود ونكران الصنيعة، هذه الخلال كلها أو بعضها نلمحها من آن لآخر ماثلة في أعمال المؤرخ ومواقفه حسبما يقصها علينا بنفسه (ص ١٤٠).

وبعد هذا الدرس الطويل الحر لخلق ابن خلدون كشف الأستاذ عنان في الجزء الثاني من كتابه ركناً من أركان شخصية ابن خلدون المضيئة، وهذا الجزء يلقي ضوءاً قوياً على عبقرية ابن خلدون، تلك العبقرية التي صيرته موضع إجلال السلاطين والملوك وذوي النفوذ والجاه، فهاهم سلاطين المغرب والأندلس يخطبون وده، وهاهم بنو عريف يكرمون مثواه وينزلونه ضيفاً عزيزاً مع أسرته بأحد قصورهم أربع سنين، وها هو شعاع العبقرية يسبقه إلى مصر المتحضرة، فيلقاه أهلها بالحفاوة والتعظيم، ويولونه الدرس في الأزهر النابه في ذاك الحين، ثم يتولى بعد ذلك قضاء المالكية عدة مرات، وهاهم الكتاب يجمعون على قوة عقله وحدة ذكائه وعلو تفكيره، حتى أنصفه الحاقدون عليه، فجمال الدين البشبيشي وهو من ألد خصومه اعترف له بالفصاحة والتفوه، وابن حجر الذي زرى عليه خلقه، يظهرنا على ناحية من نواحي عقله يقول: (كان لسناً فصيحاً حسن الترسل وسط النظم، وكان جيد النقد للشعر، وإن لم يكن بارعاً فيه) (ص٩٣).

ولقد كشف لنا الأستاذ عنان عن عبقرية هذا الرجل الفذ وعن شاعريته أيضاً، وأتى بقليل من قصائده، وأبان أن هذه القصائد كان يطبعها طابع المرح الصوفي، وهذه الأبيات تجري بين دفتي الكتاب كالنهر العذب في الأرض المثمرة، ولقد أضاف المؤلف في القسم الثاني من كتابه أراء كتاب الإفرنج في عبقرية ابن خلدون وتراثه الفكري فذكر ما قاله جمبلوفتش من أن ابن خلدون درس الظواهر الاجتماعية بعقل متزن، وأنه أتى في هذا الموضوع بآراء عميقة (ص١٥٢) وذكر أيضاً ما قاله فون كريمر من أن ابن خلدون نثر بيدين نديتين ثمرات تأملاته الناضجة عن سير التاريخ البشري.

وأظن بعد هذا البيان يمكن للقارئ أن يخرج بصورة صحيحة عن شخصية ابن خلدون، صورة لا تشيع فيها ولا تحيز، ظهرت فيها الظلال كما ظهرت فيها الأنوار. وهذا المنحى الذي نحاه الأستاذ عنان في درس هذه الشخصية جدير بالتفات كتابنا المصريين المغرمين بتراجم العظماء، ولعل الذين وقع في وهمهم أن كتاب عنان لم يتناول شخصيته، يصححون رأيهم بعد هذا البيان الموجز.

<<  <  ج:
ص:  >  >>