على المفكر، والحس على الحاس، وهو ما نسميه اليوم بالكوجيتو الديكارني (نسبة لعبارته المشهورة: أنا أفكر، فأنا إذن موجود , والفعل (يفكر) هو في اللاتينية التي كتب بها ديكارت وهو سر هذه التسمية). وابن سينا مدرك ما في هذا البرهان من جدة وطرافة، وهو يعلق عليه بقوله: فهذا برهان عظيم يفتح لنا باب الغيب. . . فمن تحقق عنده هذا البرهان وتصوره في نفسه تصوراً حقيقياً فقد أدرك ما غاب عن غيره؛ بمعنى أنه يستطيع أن يستبطن نفسه بحق. واستبطان المرء ذاته، والدخول في نفسه دون حواسه - التي يجب أن تكون مغلقة تماماً - ليس في مقدور كل شخص ولا في كل حين. . . الخ) كما يوضح هذا البرهان بقوله: والإنسان إذا كان متهماً في أمر من الأمور فإنه يستحضر ذاته حتى إنه يقول (إني فعلت كذا أو فعلت كذا) وفي مثل هذه الحال يكون غافلاً عن جميع أجزاء بدنه. . . فالمراد بالنفس هنا هو ما يشير إليه كل أحد بقوله (أنا). وليس المقصود بهذه الذاتية - كما ظن أكثر المتكلمين - الإشارة إلى البدن، فهذا ظن فاسد. (راجعوا رسالته في معرفة النفس الناطقة وأحوالها لأبن سينا، صفحات ٦، ٧، ٨، ٩).
وكان ابن سينا يريد أن يخالف أفلاطون في موضوع هذا المبدأ النفسي الواحد - فيجعله في القلب، ولكنه لم يلبث أن شكك في صحة ذلك لما رأى من مفارقة قوى النفس النباتية والحيوانية والناطقة وتدرجها في النبات والحيوان والإنسان بحيث لا تتعلق قوة منها بأخرى، وعاد ففسر هذا التباين في مظاهر الحياة التي تتمثل في كل من هذه النفوس بأن التضاد في مبادئ ما تحل فيه كل منها بالترتيب يزول شيئاً فشيئاً، وأنه كلما كان هذا التضاد بين هذه المبادئ أدعى إلى التوافق والانسجام كانت النفس أكثر قبولاً لمبدأ نفسي أرقى. يعني أن العقل الفعال يهب الإنسان نفساً ناطقة أرقى: لأن عناصر تركيبه أكثر توافقاً وانسجاماً على نحو ما تفيض الشمس على شيء بمجرد التسخين، وعلى آخر مجرد الإضاءة، وعلى ثالث بالاحتراق تبعاً لمادة كل من هذه الأشياء.
كذلك العقل الفعال مبدأ الفيض وواهب الوجود والصور به تخرج الأشياء من القوة إلى الفعل، كما تستفاد الصور المعقولة فهو بذاته عقل بالفعل، وما عداه من العقول التي ذكرنا فهي منفعلة به هو لذي تسيح منه قوة إلى أشياء الخيال والوهم والحس التي هي معقولة بالقوة لتصير معقولة بالفعل.