العرضي. ثم أن النفس التي تتناسخ جسماً تكون زائدة فيه عن نفسه التي وافته بعد تمام استعداده على النحو الذي ذكرنا - فيكون للجسم نفسان: أحدهما قطعاً لا شغل لها ولا عمل - ولا يشعر بها الجسم ولا تشعر هي بذاتها (لأن كل ذي نفس فهو وهذه النفس شيء واحد) فما عمل هذه النفس الثانية وما قيمتها (إذ أن علاقة النفس بالجسم - كما سبق أن بين - هي علاقة اشتغال وتدبير لا مجرد انطباع وحلول) - فضلاً عن أنه ليس جسم أولي من جسم بأن يكون لهذا نفسان، ولذلك نفس واحدة. فالتناسخ باطل وخلف.
والنفس - رغم كل هذه التعريفات والتقسيمات - ذات واحدة؛ واحدة وإن تعددت القوى وتشعبت الملكات. لأن هذه الملكات والقوى لو لم تكن تؤدي إلى مبدأ واحد لصدر عن كل منها أفعال مختلفة الأجناس. فمثلاً قوتا الإحساس والغضب لو كانتا شيئاً واحداً لكان منهما قوة واحدة يصدر عنها الإحساس والاستجابة بالغضب - مع اختلاف جنسهما كفعلين، وإن كانتا قوتين مستقلتين لكان يستحيل فعل أحدهما باستحالة فعل الآخر. ولما كان فعل كل قوة خاص بالشيء الذي هو قابل له ولا يصلح لغيره، وكانت هذه التأثيرات يرد بعضها لبعض، ويستجيب بعضها لبعض؛ لم يبق إلا أنها تؤدي جميعاً إلى مبدأ واحد.
ويتجرد ابن سينا بعد ذلك لرد شبهات على وحدة النفس، ويأتي في هذا الصدد بحجة يسبق بها الفلاسفة المحدثين في إثبات وجود النفس هي الحجة المعروفة بالأنا ومؤدي هذه الشبهة أن الانفعال بالغضب - في المثال السابق - ليس عن الصورة المحسوسة، وإن يكن نتيجة للحس، وابن سينا يصر على بطلان هذه الشبهة. ويؤكد حدوث الانفعال بالغضب عن تأثير الحس ما دام الإنسان حاساً. ويعمد بعد هذا تحليل قولنا: أنا أحس، فيرى أن هذا (الأنا) إما جسم الإنسان أو نفسه؛ فإن كان جسمه فهو إما جملة أعضائه - وهو محال، وإما بعض أعضائه - فيكون أحدها أحس والآخر غضب - وقد ظهر بطلان ذاك من قبل، وإما عضو واحد أحس فغضب - وهو مردود أيضاً أن أردنا العضو بمعناه الحقيقي - فإن كان ولا بد أن الحاس والغاضب شيء واحد، فهو هذه القوة التي قلنا إن الملكات ترتد كلها إليها - القوة الواحدة التي ليست جسماً ولا في جسم، بل هي النفس.
فأنتم هنا بصدد سبق فلسفي رائع أتى به ابن سينا قبل أن يقول به ديكارت بقرون، وأعني به إثبات وجود الذات بالتجربة الداخلية والتأمل الباطني؛ فالشك يدل على الشاك، والفكر