ثم يسوق القدر القاسي الحوادث بعضها إثر بعض، إلى أن يبين لأوديب الحقيقة التي سعى وراءها فإذا هو قاتل أبيه لايوس وإذا هو زوج أمه جاكوستا، وإذا هو أخو أولاده منها، ويثقل وقع الحقيقة على جاكوستا فتذهب إلى حجرتها هرباً منها، ثم يجدونها تتدلى في هوائها معلقة بحبل في عنقها، وقد ماتت مختنقة به، ويراها أوديب كذلك فيبلغ مصابه غايته، ويتنزع مشابك ثوبها الذهبية فيطعن بها عينيه ليبكيها بدموع من دم، ويزال الدم يسيل من عينيه إلى أن يذهبا وتنتهي بهذه الفجيعة تلك المسرحية، وقد تصرف الأستاذ توفيق الحكيم في نقلها إلى العربية ليجعل منها مسرحية توافق البيئة العربية الإسلامية، فلا تكون محض جبرية كما كانت في أصلها اليوناني بل لسعي أوديب في الوصول إلى الحقيقة أثر في مصيرها ليكون القدر فيها وسطاً بين الجبر والاختيار، كما قال أبو حنيفة: إني أقول قولاً متوسطاً، لا جبر ولا تفويض ولا تسليط، والله لا يكلف العباد بما يطيقون، ولا أراد منهم ما لا يعلمون ولا عاقبهم بما لم يعلموا ولا سألهم عما لم يعلموا ولا رضى لهم بالخوض فيما ليس لهم به علم والله يعلم بما نحن فيه وقد أصاب الأستاذ الحكيم في توجيه مسرحية أوديب هذا التوجيه ولكني أخالفه في أن أوديب سوفو كل بلغت الكمال الفني أوجه بعد مفخرة للذهن فهي ألاعيب كهان وثنيين لا يسمون إلى حقيقة القدر، لانه أسمى من أن يقدر هذه الألاعيب من أولها إلى آخرها ليلهو بها أولئك الكهان وينصبوا ويعزلوا بها ملوكهم ويوقعوا المصائب على شعوبهم وما كان أحرى الأستاذ الحكيم أن يوجه المسرحية إلى مشف هذه الألاعيب لتوافق البيئة الإسلامية موافقة كاملة ولتنتهي إلى تلك الفجيعة التي لا تستسيغها عقليتنا ولا ترى في قتل أوديب لأبيه من غير عمد ولا في زواجه بأمه من غير علم شيئاً يوجب هذا المصير المؤلم، كما لا يوجب ذلك الطاعون الذي أصاب أهل طيبة وهذا إلى أنهم لم يكن لهم يد في ذلك القتل.
وأين القدر في هذه المسرحية من القدر في أمر موسى وفرعون؟ ولعل هذه المسرحية مأخوذة من قصتهما مع الفارق الكبير بينهما فقد أراد القدر أن يربي فرعون موسى ليقتله من أجل غاية سامية، فلما أخبر فرعون كهنته بأنه سيقتل بيد مولود إسرائيلي عمد إلى قتل كل مولود يولد لبني إسرائيل ولكن القدر الإلهي غلبه على أمره وجعله يربي ذلك الطفل الذي سيكون هلاكه على يديه ومع هذا لم يجعل هلاكه على يديه إلا بعد أن أعذر إليه