وإذا علمنا أن الدول الإسلامية في تلك العصور كانت تقوم على أساس من الدين متين - والدين أهم دعائمها - تبين لنا خطر مثل هذه الفتن والمشكلات، وفهمنا أنه تمت بصلة ما إلى سياسة الدولة وعقلية الجماهير ومشاعرهم.
من هذه الحوادث وأشباهها نستدل على أن روحالمعارضة والإقدام على النقد كانا على ضرب من الحياة محمود، والنقد والمعارضة الصالحة بعض مظاهر الروح القومية ومقومات الرأي العام
وقد سبق لنا في إحدى هذه المقالات أن تحدثنا عن النقد الاجتماعي وبينا كيف تناول كثير من الأدباء والشعراء الحياة الاجتماعية بالنقد المرير السافر، فنقدوا الأسرة ونظامها وعلاقات أفرادها بعضهم بالبعض، والنظام الإداري وما فيه من فوضى واضطراب وقلق وسرقات وادعاءات ورشوة ومحاباة وظلم وما بين طوائف الأمة المختلفة جنساً ولغة وديناً من أحقاد وأحن. وقد مزح بعض الشعراء نقده اللاذع بالتورية والفكاهة والدعابة فخرج مخرجاً كيساً مقبولا.
والحق أن الشعب المصري كان - على علاته - ذا إحساس سياسي ناقد عجيب، شارك به في حادثات بلاده على اختلاف ألوانها. يبدو لنا ذلك مما يقحمه بعض المؤرخين - كابن إياس - من العبارات في ثنايا روايتهم التاريخية كقولهم في سياق حادثة ما:
و (كثر القيل والقال) و (أرجف الناس) و (فأشيع بين الناس) و (فضج الناس له بالدعاء) إلى نحو ذلك من العبارات. وأذكر أن ابن إياس قال في إحدى عباراته ما مؤداه:(إن أهل القاهرة ما تطاق ألسنتهم، ويل لامريء تقع عيونهم منه على مذمة) هذه العبارات وأشباهها تشعرنا بوجود ذلك الإحساس الذي أشرنا إليه، وإن كانت ساذجة غامضة. غير أن هذا الإحساس لم تتح له حرية كافية للظهور والعمل خوفاً من المستبدين الطغاة، ولم ينضج نضوجاً كافياً يسمو به إلى تكوين رأي عام له أثر في سياسة الدولة وإرادتها.
على أن التاريخ يحدثنا أن الشعب كثيراً ما نهض إلى معونة حكامه في حروبهم الخارجية، وقدم إليهم ما طلبوا من الدواب والغلال والمال، ولم يتأب كثيراً على الضرائب التي يفرضونها عليه، ولكنه كان يتأبى عليها ويقاومها إذا كانت فادحة ظالمة. ومثال ذلك ما