لأن ذهنه مشبع بمذاهب الغربيين في هذه الحقيقة. ولا يدري كيف يحدد موقف طاغور بالنسبة للذين يقولون بأن أصل الوجود جوهر واحد سواء أكان روحياً أو مادياً، أو بالنسبة للذين ينادون بثنائية الوجود أو يعتقدون بجوهرين هما الروح والمادة، لأنه تعود أن ينسب كل رأي إلى فكرة غربية مماثلة لها، ويقارنها بها؛ فإن لم يجد لها نظير صعب فهمها عليه. ولذلك يجب علينا جميعاً أن نتعود فهم الأفكار الشرقية وعقولنا خالية من النظريات الغربية، فإنها تشتت أذهاننا وتبلبلها فتأسرها في مكان ضيق لا تقدر أن تدرك ما خارجه، وإن حاولت عجزت عن فهمه. وكما هال الأستاذ الحداد أن يكون منبت حقيقة وحدة الوجود هو الشرق، ولم يكن أول قائل لها هو اسبينوزا، فأخذ يستوضح عن صلتها بالدين الهندوكي وتغافل عن أفلوطين قد تأثر بأفكار الهنود في وحدة الوجود الروحية، وأتى من قبل اسبينوزا بمذهب فيها، قد تأثر به اسبينوزا نفسه كما تأثر ببعض المتصوفين الإسلاميين الذين تكاد كل نظرياتهم في التصوف مستمدة من صلب التعاليم الهندوكية.
أما كيف عرف الهنود تلك الوحدة فيرجع ذلك إلى عهد يبعد في القدم إلى أكثر من خمسة وعشرين قرناً، يوم كانوا يؤمنون بآلهة كثيرة تمثل مختلف قوى الطبيعة وشتى مظاهر الكون. ويوضح (الفيدا) وهو كتاب هندي مقدس لا يعرف واضعه أو واضعوه - ماهية كل إله. ويذكر الأدعية التي ترفع له، ويعين القرابين التي تبذل من أجله ولا يشير كتاب الفيدا إطلاقاً إلى حقيقة وحدة الوجود التي جاء بها (اليوبانيشاد) من بعده وهو كتاب هندي ديني آخر مجهول مؤلفه أو مؤلفوه. يضع فلسفة الهنود الهندوكية في وحدة الوجود، ويضم كافة الآلهة الهندية في إله واحد يشملها جميعاً ويحل فيها، وهو براهما الذي يستمدون وجودهم من وجوده، ولا يبعدهم الهنود إلا لأنهم آلهة يتجلى منها الإله الأكبر (براهما) الذي يكمن في كل شيء في الكون. وإن مظاهر عبادة الحيوان وتحريم قتله، وتقديس الأشجار ومنع قطعها، والتبرك بمياه الأنهار، يبين لنا كيف يعبد الهنود الظاهرات الطبيعية التي يستقر فيها يراهما.
وتناول طاغور هذه الحقيقة بتفكيره الشاعري وعرضها بخيال الفنان الملهم في أسلوب روحي يفيض عذوبة وحلاوة. فإن اعترى أفكاره عند تأملها عقلياً الإبهام، فلا يجب أن نلومه لأنه شاعر قبل أن يكون فيلسوفاً، وما أراد لنفسه أن يكون في يوم من الأيام فيلسوفاً،