(فغاية الأحوال العادية كلها عندهم الرحلة والتقلب، وذلك مناقض للسكون الذي به العمران ومناف له. فالحجر مثلا إنما حاجتهم إليه لتصبه أثافي للقدر فينقلونه من المباني فيخربونها عليه، ويعدونه لذلك. والخشب إنما حاجتهم إليه ليعمروا به خيامهم ويتخذوا الأوتاد لبيوتهم فيخربون السقف عليه. . .)(ص ١٤٩).
ومن البديهي أن مدار البحث هنا لا يتعدى البدو الذين يعيشون تحت الخيام. ولا مجال للشك في أن ابن خلدون عندما كتب هذه العبارات وقال (لا يحتاجون إلى الحجر إلا لوضع القدور، ولا إلى الخشب إلا لتصب الخيام) لم يفكر قط في أهل دمشق أو القاهرة، ولا بسكنه تونس أو فاس. إنما قصد أعراب البادية وحدهم. وقال:
(وقد كنا قدمنا أن الصنائع من منتحل الحضر، وأن العرب أبعد الناس عنها. وصارت العلوم لذلك حضرية، وبعد العرب عنها وعن سوقها)(ص ٥٤٤).
يلاحظ أن ابن خلدون يذكر هنا كلمة العرب مرتين مقابلاً لكلمة الحضر، بشكل لا يترك مجالاً للشك في أنه يقصد منها البدو على وجه التخصيص ويخرج من نطاق شمولها الحضر على الإطلاق. غير أني أرى من الضروري أن ألفت الأنظار إلى موضع الفقرات الآنفة الذكر من أبحاث المقدمة: إن تلك الفقرات مستخرجة من الفصل السابع والعشرين من الباب الثاني؛ وعنوان الباب المذكور هو:(العمران البدوي والأمم الوحشية والقبائل وما يعرض في ذلك من الأحوال). وذلك أيضاً يدل على أن ما جاء في هذه الفقرات ينصب على الذين يعيشون في حالة البداوة، ولا يشمل الذين يعيشون في المدن. ومن المعلوم أن أحوال المدن تكون موضوعات البابين الثالث والرابع من المقدمة. والفقرة الآنفة الذكر لا تدخل في نطاق البابين المذكورين.
وبناء على كل ما تقدم يحق لنا أن نعبر عن رأي ابن خلدون في هذه القضية - وفق أسلوب كلامنا الحالي - بالعبارات التالية:(إن العرب - عندما كانوا في حالة الفطرة والبداوة - لم يستطيعوا أن يؤلفوا دولة ويؤسسوا ملكاً، إلا عندما تأثروا بدين أو ولاية تزيل عنهم التحاسد والتنافس، وتحملهم على الانقياد والاجتماع).
ومن الغريب أن كلمات ابن خلدون في هذا المضمار - عندما تفرغ في هذا القالب - تصبح موافقة تمام الموافقة للنظرية التي توصل إليها علماء الاجتماع في العصر الحاضر