بعد هذا أجيب الأديب الفاضل بأن هذه الكلمات التي جرى بها قلم السيد أمينة السعيد تنطبق كل الانطباق على طبيعة شاعر مثل هنريك هاينى، وتبعد كل البعد عن طبيعة شاعر مثل لورد بيرون. . . ولقد كنت أرجو أن يكون رأي الأديبة المصرية قائماً على دراسة شعر بيرون مرتبطاً بحياته ومقترناً بطبيعته النفسية والخلقية، ولو أجهدت نفسها في هذه الدراسة لخرجي برأي غير الرأي ونظرة غير النظرة، ولكن كتابها في ميزان أدب التراجم لا يعدو أن يكون قصة طريفة تدور حوادثها حول شخصية بيرون ومغامراته ونزواته ورحلاته! ومعنى هذا أن الدراسة النقدية لشعره لم تحظ من قلمها بنصيب، وكذلك الدراسة النفسية في مجال الكشف عن صلة الفن بالحياة، هناك حيث تكون النفس الإنسانية أشبه بمرصد يسجل كل ما يتلقاه من هزات القلب والشعور!
شخصية بيرون الأدبية والإنسانية شخصية جليلة المعالم واضحة السمات. لقد انحدر من صلب أسرة ورث فيها الشذوذ في النفس والخلق أبناء عن آباء، ولكن بيرون خرج إلى الدنيا وفي دمه مزيج من شرور الوراثة ومواهب الفنان، ولقد خففت هذه من حدة تلك فلم يلق الحياة بالشر المطلق الذي يلغي الإحساس بالألم العارض والهم العابر ووخزات الضمير. . كان جل همه أن ينشد متعة النفس ولذة الجسد ونزوة العاطفة، لا يعنيه من دنياه غير اللحظة التي يعيش فيها وتعود عليه بكل ما يشتهيه الرجل الجميل المدلل الذي لا يمد عينيه أبداً إلى أمام! وفي محيط الشر والإئم كان (الفنان) الذي في دمه يستيقظ من حين إلى حين، ومن هنا كان بيرون يتألم ولكنه الألم العابر كما قلت، يطرق بابه ليرتد عنه بعد لحظات أمام جموح الشباب المترف الذي يحطم في سبيل غايته كل ما تعارف عليه المجتمع من حدود وقيود! الألم في حياة بيرون لم يكن ألماً بالمعنى المفهوم عند شاعر مثل هاينى، ولكنه كان لوناً من السخط على الحياة يزول وينقضي حين تفسح الحياة طريقها للفتى المدلل ليمضي إلى غيه وهواه! وما أكثر ما تنحت الحياة عن طريقه وهيأت له كل ما يصبو إليه من تحرر وانطلاق، وفي رحاب هذا التحرر كانت تنبعث أغانيه. . . حلوة، صافية، عميقة. لقد خلق بيرون وفي دمه طبيعة بلبل لا يجيد التغريد إلا إذا رأى الجو صحواً والسماء صافية، فإذا امتلأ الجو بالغيوم وتوارى النور خلف حجب الضباب سمعت منه بعض الغناء، ولكنه الغناء المختنق ينبعث من أوتار حنجرة ساخطة، ثائرة، تنعى هذا