الظلام الذي لا يتيح لها أن تصدح كما تشاء! من هذه الكلمات الموجزة تستطيع أن تضع يديك على مفتاح هذه الشخصية التي لا غموض فيها ولا تعقيد. . . يقول بيرون:(لقد هببت من نومي ذات صباح فألفيتني مشهوراً بتردد اسمي على كل لسان)، قالها بعد أن دفع بديوان شعره الأول إلى أيدي الناشرين فدفعوا باسمه إلى السماء، وكان ديوانه هذا الذي حقق له أسباب الشهرة والمجد والخلود هو (تشابلدهارولد)، وإنه في رأي الفن لخير أعماله الأدبية على الإطلاق!. . . لقد جادت قريحته الوثابة بهذا الشعر في لحظات الصفاء، هناك حيث قضى بيرون في ربوع الشرق أجمل أيامه وأسعد لياليه: كأس خمر معتقة، وقلب غادة خفاق، وذهب يسيل بين يديه، وزورق يمخر به عباب البحر إلى إثينا وأزمير ومالطة واستانبول، وهذه هي الحياة. . الحياة التي كانت تفجر الشعر في أعماقه تفجيراً، وتهدي إلى عشاق الأدب والفن أروع ألحانه وأعذب أغانيه، هناك في (تشايلدهارولد)!
وإذا ما تردى بيرون في هوة الإثم والفسق والفجور سعدت نزواته وسعد فنه وسعد قراؤه. . إنها لحظات الصفاء بالنسبة لرجل يرى السعادة في إشباع رغبات الجسد، ولو تركزت هذه الرغبات الجامحة الشريرة في شخص (أوجاستا) أخته من أبيه. . ومن هذه النزوة المحرمة في شرع العرف والسماء يتدفق إبداع بيرون في (عروس أبيدوس)، وهي القصة الشعرية التي تصور قصة الهوى الآثم بين (زليخا) وأخيها (سليم) أو قصة الهوى الآثم بين (أوجاستا) و (بيرون) على التحقيق! صحيح أنه سجل ألمه المنبعث من وخز الضمير على ما اقترف من إثم في بعض شعره، ولكن الحقيقة التي بقيت لنا من شعره وحياته تؤكد لدراسيه أنه لم يكن يفرع من الآمه العابرة حتى يعود إلى لذاته الدائمة، فيسهب ويبدع هنا ويوجز ويفتر هناك. . يسهب حيث تطول اللذة ويوجز حيث يقصر الألم، وما الفن إلا انعكاس صادق من الحياة على الشعور.
إن العبقريات كما سبق أن قلت معادن: بعضها يتوهج في ظلال الترف والنعيم، وبعضها يتأجج في رحاب الفاقة والحرمان، وبعضها يخبو بريقه إذا ما انتقل من حال إلى حال. . ومن البعض الأول كان بيرون، ومن البعض الثاني كان هاينى، ومن البعض الثالث كان جوركي، ولعل في هذه العجالة ما يهدي الأيبة المصرية إلى معالم الطريق!