للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الآخر لا يخرج عن دوافع استعمارية سعت عن طريق الثقافة، كما سعت عن طريق غيرها من الوسائل: تحطيم روح أمة لم تتهاون في مقاومة المستعمرين؛ وقصدت إخضاع العالم العربي بإضعاف الثقة في مقوماته العقلية وإشعاره بحاجته إلى غيره من الأمم الناهضة، فيضطر إلى أن يخضع ويقبل سيطرة الغرب، ويذعن لسيادته. فلا عجب إذاً من تحامل المستشرقين على العرب، ولا غرابة إذا زعموا أن العقلية العربية عقلية ساميَّة قاصرة عن الخلق، عاجزة عن استنتاج المعاني المجردة، غير قادرة على تجاوز الجزئيات المحسوسة، أو إذا ادعوا أن العرب استمدوا علومهم وفلسفتهم من قدماء اليونانيين الغربيين، ولا فضل لهم فيما عرفوه من فنون وآداب ومدنية، فإن معظمها مأخوذ من الفرس والهنود.

ولكن لما أخذت النزعة الاستعمارية تخف باستمرار مقاومة العرب لقوى الاستعمار، ومناهضة الآراء الاستعمارية، ومحاولتها الدائمة لرفع مستواهم المعنوي والمادي، وإظهار قوة مواهبهم، وقدرتهم على مجاراة المدنية الحديثة، والمساهمة فيها، اختفت تلك الآراء المتطرقة في العقلية العربية، وبدأ المستشرقون ينظرون إلى البحث في الثقافة العربية على أنه ضرب من الهواية العلمية، ينعمون فيها بفهم فكر ليس من نتاج عقول شعوبهم، أو يظهرون قسطاً من البراعة في كشف النقاب عن أسرار إحدى الثقافات القديمة، أي لا يبغون غير متعة روحية أو نزهة علمية، ولا ينشدون الكشف عن خواص العقلية العربية ومميزاتها، ولا يهدفون من وراء ذلك إلى إحياء تراث العرب وبعثه في صورة تناسب روح الحياة الحديثة، وتدفع بالشعوب العربية إلى الأمام.

وهذا ما يجب أن يطلبه كل من يبحث من العرب في آثار ثقافته، ولا يكتفي بدحض مزاعم المستشرقين وادعاءاتهم، أو يرضى باقتفاء أثرهم في مناهج أبحاثهم العلمية الدقيقة التي تتوخى تحليل الواقع تحليلا موضوعياً بدون أن تهتم بالاستفادة منه في ترقية مستوى العرب الثقافي، أي لا تصل هذه الدراسات ماضي العرب بحاضرها، أو تربط حياتهم في عهد الأمويين والعباسيين بحياتهم في العصور الحديثة، ولا تنظر إلى التراث العربي على أنه أحد التجارب الثقافية التي مرت بالشعوب العربية، وأنه يجب أن توجد علاقة وثيقة بين مختلف المراحل الثقافية العربية تبدو في تطورها الدائم، وتدفقها المتواصل نحو الرقي

<<  <  ج:
ص:  >  >>