والتقدم، وأن الحضارات المعاصرة يجب أن تهتدي بالحضارات القديمة، وتتفادى ما وقعت فيه من أخطاء عاقت سيرها الطبيعي. فلو هدف العرب من دراسة فكرهم القديم للكشف عن مقوماتهم العقلية الأصلية لهيئت لهم السبل لتقوية ما يكتنفها من ضعف ونقص، وإبراز ما تشتمل عليه من نبوغ ومهارة في مختلف نواحي النشاط الإنساني، ولتجنبوا كل ما اقترفته سابقاً من أغلاط، وتمثلوا بكل ما أظهرته من براعة.
إن محاولات كثير من الكتاب لإثبات قدرة الفكر العربي على الابتكار والخلق يستهلك جهوداً عظيمة، تصرفهم عن البحث الحق في التراث العربي؛ وتشغلهم بكتابات بيزنطية لا تقدم ولا تؤخر. فبدلاً من أن نتطاحن في سبيل التدليل على قدرة العرب على تأليف العلوم، ووضع المذاهب، وتكوين النظريات، يجب أن نفتش عن الأسباب التي دعت العرب إلى الأخذ من غيرهم، وننعم النظر في الظروف التي نشأت فيها الحضارة العربية، وتطورت. فإن انتقال العرب المفاجئ من بلاد بدوية إلى بلاد ذات مدنية عريقة ومجد ثقافي، أصابهم بنوع من الذهول، شل تفكيرهم، وأفقدهم القدرة على التأمل الحر. ولما حاول العربي أن يندمج في الحياة الجديدة أخذ يحاكي الشعوب الخاضعة له وهي تفوقه حضارة ومدنية، ويردد علومها وفلسفاتها، حتى أصبح كأنه صاحب هذه الحضارات. ولكنه ما كاد يلم بمختلف الثقافات حتى تضاربت في ذهنه، وتشابكت الاتجاهات الشرقية والغربية، فأدى ذلك إلى أزمة روحية ظهرت جلية واضحة في نوبة الشك التي طرأت على نفس الغزالي، فعبرت بقوة وصدق عن مدى اضطراب الحياة الروحية في العالم العربي نتيجة لتصادم المذاهب اليونانية بالأفكار الفارسية والهندسية في العقلية العربية المتشبعة بتعاليم الدين الإسلامي، فانتاب العرب حيرة فكرية بلبلت أذهانهم وشتتّها.
فالبيئة الثقافية التي نشأ فيها الفكر العربي هي التي لم تسمح له بأن يتدرج في مراحل النضوج، مرحلة بعد مرحلة، وإنما ساقته دفعة واحدة من حالة يدوية إلى حالة راقية، لم تمهله لينمو نمواً طبيعياً، وعجلت بنضوجه قبل الأوان فلم تتح له فرص الترقي، أو التمرن على التفكير الذاتي المستقل، لأنها زودته بثقافات تامة التكوين، بهرته، فتعلق بها تعلقاً شديداً لجدتها عليه، فوقع في أسرها، ولم يستطع أن يتخلص منها، ويتعداها، لأن ذلك يحتاج إلى فكر تعود التأمل العميق، ومارس الحياة الثقافية مدة طويلة. وليت تأثير هذه