البيئة الثقافية المعقدة في الفكر العربي وقف عند هذا الحد، بل كما عجلت بنضوجه عجلت بإطفاء جذوته بعد أن أجهدته، لدرجة أنه بذل كل طاقاته في استيعاب شتى الثقافات الشرقية والغربية، فأصابه ضرب من الجمود والركود نتيجة لهذا الإجهاد المفتعل أقعده عن أن ينتج إنتاجاً عربياً خالصاً يتميز به، فأوحى ذلك للمستشرقين بأن العقلية العربية عاجزة عن الإبداع العلمي، ولم ينصفوا العرب ويعلنوا أن هذا العجز خارج عن إرادة عقليتهم ولا يرجع إلى أي نقص فيها، وإنما يعود إلى اضطراب الظروف الثقافية التي نشأت فيها هذه العقلية.
بالرغم من كل هذا بزغ بين العرب أفراد قلائل استطاعت عبقريتهم أن تتغلب على هذه الظروف المضطربة، وتتجاوز ما هو مألوف بينهم من علوم وفنون، وأبرزت قدرة العقلية العربية المجال العلمي، وابتكرت علوماً جديدة لم ينتبه إليها عامة علماء العرب. ولم يساهم واحد منهم في ترقيتها. ومن بين هؤلاء المفكرين الأفذاذ عبد القاهر الجرجاني الذي نجح في وضع نظرية جديدة في الأدب لم يعهدها العرب من قبله، وهي تعتمد على إنعام الذوق في النصوص الأدبية وكشف أوجه البلاغة فيها؛ إلا أن هذا المذهب سريعاً ما ابتلعته النظريات الشائعة التي تستند على المنطق الأرسطي، ولم يجد له من الأنصار الأكفاء من يرعاه من بعده حتى يستكمل تكوينه. وذلك لإيمان العرب الساذج بسحر المنطق وضرورة تطبيقه على كافة العلوم ليأخذ الصبغة العلمية في ذلك الوقت. وكذلك الحال بالنسبة لابن خلدون الذي وفق في تأليف أصول علم جديد أطلق عليه (علم العمران) ويعرف الآن باسم (علم الاجتماع) ابتكرته قريحته التي شغفت بالتاريخ وولعت بملاحظة أحوال مختلف البلدان التي رحل إليها وتجول في ربوعها، واكتسبت ملكات التفكير المنظم من دراسة الفلسفة بفروعها فساعدته هذه الدراسات وغيرها من العلوم والفنون على استخلاص هذا العلم الذي افتقر من بعده لمن يتعهده، حتى نسي ونسب وضعه إلى أوجست كونت الفرنسي الذي ظهر بعده بقرون
فأحسب أنه يبدو أن اضطراب البيئة الثقافية، وتعقدها هو أصل داء الفكر العربي وعلة أخذه من ثقافات الغير بدون أن يضيف إليها شيئاً كثيراً. ولذلك يجب أن نتعظ بما أصاب عقلية أسلافنا من عقم، ونجنب فكرنا الحياة في أي جو ثقافي خانق يعوق انطلاقه في عالم