الخلق، ويعرضه لنفس الاتهام السابق، فتتأكد مزاعم المستشرقين في العقلية العربية. وأول خطوة يجب أن تخطى في هذا السبيل هو أن نهيئ لأنفسنا بيئة علمية تحث عقولنا على أن تسلك سبلها الطبيعة، ولا تنخدع ببريق الثقافات الغربية الحديثة، أو تغتر بما وصل إليه الغرب من مدنية، ونقبل عليها إقبالا أعمى، وتظن أن حشو أذهاننا بكافة العلوم والفنون الغربية يعد دليلاً على التمدن الصادق، ويتخذ مقياساً للتثقيف الكامل، وتغفل عن أن الثقافات الغربية بما بلغته من رفعة وعمق، لا تستطيع أن تنضج العقلية العربية التي تختلف مقوماتها الروحية عن مقومات العقلية الغربية المادية. فلا ينبغي بأي حال أن يقتصر أحد من العرب على التزود بعلوم التربيين وفنونهم، بل يجب عليه أن يعتمد اعتماداً رئيسياً في التثقيف على نتاج عقول أمته، فينهل من معين الثقافات العربية، وما يشابهها من الثقافات الشرقية؛ لأن فكره في كنفها يشعر باطمئنان وحرية وانسياب فيستجيب لها، ويبدع في شتى نواحي النشاط الفكري، ولا يحس بضغط أية ثقافة غريبة عن مزاجه تلزمه أن يطرق طريقها قسراً، أو تجبره على أن يتشكل باتجاهاتها بالرغم منه، فتعرقل تقدمه، وتعدم ابتكاره.
وهذا لا يعني أن العربي لا يجب أن يهتدي بتجارب الغرب الثقافية في تنمية علومه وفنونه، فإن له جهاداً فكرياً عظيم الشأن لا يمكن لأمة تريد أن تنهض علمياً أن تستغني عنه، أو لا تنتفع بما كسبه هذا الفكر للإنسانية من خيرات، كان لها أكبر الأثر فيما نحن فيه من حضارة. إلا أنه لا يجوز أن تترك لهذا الفكر أن يسيطر على عقولنا، أو يتحكم في أهوائنا، حتى لا نقع فيما وقع فيه الغزالي من قلق نفسي وارتياب عقلي، ونعاني شعوراً مؤلماً بالنقص في قدرتنا العقلية من جراء تضارب نزعاتنا الشرقية بالنزعات الغربية، الذي قد يحول دون تقدمنا العلمي، ويجعلنا نحس بحاجتنا الدائمة إلى عون الغرب. فإعداد الجو الثقافي الملائم لطبيعة العقلية العربية يعتبر الدعامة الأساسية التي تربى عليها النوازع الفكرية تربية حرة تساعد على تشييد حضارة جديدة تنافس الحضارة الغربية.
تلك الحضارة التي لم تعرف طريق المجد إلا بعد أن حطمت قيود الكنيسة التي فرضتها على الفكر، وتخلصت من استبدال رجال الدين الذين حبسوا العقلية الغربية داخل نطاق التعاليم المسيحية الروحية التي تحالف اتجاهات الغرب التي تميل للمادية، فكانت حركة