والآن ماذا حدث؟ لقد تورطت العلائق الدولية خلال الأعوام الأخيرة تطوراً سريعاً مدهشاً، وأخذت روسيا تخصم من خصومتها للدول الغربية شيئاً فشيئاً، وأخذت الدول الغربية في التقرب من حكومة موسكو البلشفية، بعد ما لبثت أعواماً تحاول القضاء عليها، وتحشد لمناوأتها كل ما استطاعت من القوى الخفية والظاهرة، وعاد عهد التوازن الأوربي القديم وعهد المعاهدات السرية والمحالفات السياسية والعسكرية، وغاض ذلك الأفق المصطنع الذي ساد فيه حديث السلام والتضامن الدولي مدى حين. وقد كان من الطبيعي أن يعتبر التحاق روسيا بعصبة الأمم عاملاً في صفاء الأفق الدولي، وتعضيد قضية السلام، لأن تباعدها عن الدول الغربية كان عقبة دائمة في سبيل تقدم التفاهم الدولي واستقرار العلائق الدولية، وعدم اعترافها بالعصبة يعرض جهودها في سبيل السلام للانهيار: هذا على الأقل ما كان يتردد في دوائر جنيف حبط مسعى في سبيل التفاهم أو مجهود في سبيل نزع السلاح. ولكن التحاق روسيا اليوم بعصبة الأمم يدلي بمعان أخرى. وروسيا لم تغير رأيها في العصبة ولا في الدول (الرأسمالية) التي تتكون منها، ولكن روسيا اليوم تعلق على هذا الانضمام آمالاً كبيرة وترى أنه يحقق لها من المصالح ما لم تحققه سياسة القطيعة والعزلة، والسياسة الغربية التي تسعى منذ حين لتحقيق هذا الانضمام تحاول أن تقنعنا بأنه يزيد العصبة قوة ويزيد كلمة أوربا توحيداً، ويقرب أمد التفاهم في مسألة نزع السلاح، ويعاون على استقرار السلم في أوربا، ولكن الحقيقة أن هذه النظرية القديمة قد تطورت اليوم، وما ترشيح روسيا لدخول العصبة إلا نتيجة لسياسة التوازن الأوربي الجديدة التي ظهرت بوادرها قوية منذ قيام الحركة الوطنية الاشتراكية في ألمانيا وظهورها بمظهر المهدد لسلام أوربا، وفشل مفاوضات نزع السلاح وعود فرنسا صراحة إلى السياسة القومية القديمة بحجة الدفاع عن نفسها أمام الخطر الألماني. ومنذ عامين ونحن نشهد نتائج هذا التطور الجديد، في وقوع الجفاء بين ألمانيا وروسيا أولاً، ثم انتهاز فرنسا لهذه الفرصة وتقربها من روسيا، وتفاهم الدولتين على إحياء التحالف الفرنسي الروسي القديم الذي كان قائماً قبل الحرب، ثم مساعي السياسة الفرنسية المتواصلة في جمع كلمة دول أوربا الشرقية حولها في كتلة واحدة تخاصم ألمانيا جميعاً، وحملها حليفاتها دول الاتفاق الصغير على الاعتراف