على الكثيرين من طلاب الفلسفة المبتدئين، أن الفلسفة أسلوب من أساليب التفكير البشري، وناحية من نواحي النشاط الفكري. فالإنسان المنطوي على طلب المعرفة، المطبوع على تفسير الظواهر، المتلهف على تلمس العلل والأسباب والغايات كما ينهج النهج الخرافي في تفكيره، قادر إذا ما بلغ طوراً من التقدم العقلي أرقى، وإذا ما تهيأت له ظروف مادية خاصة، على أن ينهج نهجاً فلسفياً. بل إن بذور التفكير الفلسفي لتبرز في طفولة المرء وفي طفولة البشرية. وقد انتهيت في مقال سابق من رسالة بعد استعرض أمثلة من الشرق القديم إلى أن الخرافة أو الأسطورة وإن كانت تطبع التفكير الشرقي القديم، فإن الفلسفة كانت تطل برأسها بين الفينة والفينة، وفي ذلك المحيط من ظلام الفكر حيث تتراقص المردة والأشباح والشياطين التي تراها عين الخيال وتذكيها العاطفة والهوى، كانت تنبثق أحياناً بروق فلسفية ومحاولات لتفسير الأمور تفسيراً عقلياً، فتغالب الأشباح وتبدد الخرافات إلى حين.
وأضيف إلى ذلك أن الفلسفة كثيراً ما كانت تبلغ الأوج دون أن تبدد الأشباح تبديداً تاما. وكثيراً ما ألمت بها نكسات لا يزال التاريخ يذكرها فقد أعقب العصر الذهبي للفلسفة اليونانية إِبان القرنين الثالث والرابع قبل الميلاد ذبول هو ارتداد إلى الفكر الشرقي القديم من حيث الامتزاج بالدين والاقتصار على مباحث الأخلاق والميل إلى التصوف، وما التصوف في حقيقة الأمر إلا نوع من الإعراض عن العلم العقلي الذي يستند إلى الدليل والبرهان، والاكتفاء باليقين القلبي والإيمان. وفي عام ٥٢٩ بعد الميلاد أغلق الإمبراطور يوستنيانوس مدارس الفلسفة في أثينا، وكانت قد أقفرت من التلاميذ، وتناقص عدد العلماء فيها وخمد الفكر الفلسفي في اليونان ليذكر في الشرق، في ربوع فارس حيث كسرى أنوشروان، صديق الفلسفة الذي فتح ذراعيه للنازحين من ربوع الاضطهاد الفكري.