في ركن تغمره الظلال. وها أنذا مرغم على الابتعاد عشرة أميال، سائر تحت وهج الشمس ومثار الغبار يؤذي عيني. ولكن، كل شيء يهون في سبيل الصديق، وأغلقت الباب، وأدرت المفتاح، ومضيت ومعي متبغي وعصاي.
وصلت إلى إيجوير قبيل الساعة الثانية. كانت القرية تكاد تكون خاوية، كان أهلها يعملون إذ ذاك في الحقول. ولم أجد هناك بالطبع ألا أتانا تتمتع بضوء الشمس، وحماماً يحوم حول نافورة الكنيسة، وجنادب - أكثر نشاطاً من زميلاتها في أوران - تتعالى أصواتها حول شجرة الدردار الأخضر، وقد اغبرت أجسامها , وهكذا أم أشاهد مخلوقاً يرشدني إلى ملجأ الأيتام. وفجأة لاحت (جنية) طيبة لنجدتي. فقد لمحت عجوزاً هزيلة منطوية على نفسها في مدخل. فسألتها عن الطريق فأشارت بإصبع متخاذلة. وبدا لي الملجأ كأنما ظهر بفعل عصا سحرية. كان بناء شامخاً قديماً قابضاً، يعلوه صليب من الآجر، وقد نقشت على مدخله كتابة لاتينية، وقامت بجواره دار صغيرة، ذات نوافذ رمادية وحديقة خلفية. كانت مقصدي، فدلفت إليها دون أن أقرع بها.
إن مشهد تلك الدار قد نقشت في ذاكرتي إلى الأبد: تلك النظافة التامة، وذلك الهدوء الشامل في الردهة الطويلة، والجدران الوردية، والحديقة بأزهارها تتمايل مع النسيم، وقد بدت خلال النوافذ ذات الألوان الزاهية، وصفائح الجدران المزدانة بصور الزهر، وقد حالت من القدم. وخيل إلى كأني في دار أحد أشراف سيدان. وسمعت خلال باب منفرج نضف انفراجه دقة ساعة، وصوت طفل يقرأ في صوت جهوري، كلمة كلمة، ومقطعاً مقطعاً (ثم - أنا - القديسة - أيربنية - صحت - أنا - دقيق - الإله - ويجب - أن - أطحن - وأنثر - بأنياب - تلك - الوحوش. . .) واقتربت وأنا أمشي على أطراف قدمي وتطلعت.
شاهدت في غلالة من ضوء النهار الساكن، كهلا منفرج الفم، واضعاً يديه على ركبتيه، ومستغرقاً في سبات عميق على مقعد. كانت وجنتاه موردتين، وجلده مجعداً حتى أطراف أصابعه. وجلست تحت قدميه فتاة صغيرة، ترتدي (شالا) طويلا ارزق اللون، وقلنسوة صغيرة زرقاء - لباس الأيتام. وكانت هي التي تقرأ سيرة القدسية إيرنيه من كتاب يكاد يقارب حجمها. وكانت القراءة العجيبة تفعل فعل المخدر في الحجرة الساكتة. فقد كان كل من الكهل في مقعده، والذباب في السقف، والكناري في القفص، في سبات عميق. ولم يعكر