للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

يجوز لأحد أن يسطو عليها وإلا كان سارقاً. كان أشبه بالضاحك من نفسه ليخدعها وإنما يهين نفسه. فالابتكار في الأدب والاختراع في سائر الفنون. فمن أبتكر في أسلوب الإنشاء مذهباً جديداً بات هذا الأسلوب معروفاً باسمه، ومن جادت قريحته بتشبيه جديد لا يجوز لأي أديب بعده أن يأخذ عنه هذا التشبيه ويتبناه وهو ليس من تواليده، وإلا كان سالخاً ضعيف المخيلة، قاصر اليد. والأديب العربي لا يكون اليوم مبدعاً إذا أتحف الأدب بروايات أشبه بمقامات الهمذاني والحريري، فأن ذلك النسيج من ثمار عصر مضى، وهو مما تستحسن حياكته في أيام الانحطاط لإنهاض اللغة وإذاعة مفرداتها، فتلتقطها الأذهان وتستعين بها الأقلام، أما اليوم فأن أسلوب المقامات لا يحتسيه أبناء العصر ولا يستسيغونه، فقد تبدل أسلوب الإنشاء تبدلاً عظيماً، فمات السجع، ومات التقعر والتحذلق والانصراف إلى الألفاظ دون المعاني، وأضحى الأسلوب الساري كل واضح جلى قريب إلى الذهن والفهم. ولا فرق في هذا الواضح الجلي سواء أنتقل إلينا من الجاهلية أو صدر الإسلام، أو الأعصر العباسية، أو عصر الإنحطاط، أو عصر الانبعاث فأن أتشاء أبن المقفع لا يبلى في أي عهد، ومثله الجاحظ، وأبن الأثير، والأصبهاني، وأبن عبد ربه، وأبن خلدون، مع أن إنشاء أبن خلدون أخذ يتقادم عهده وفيه من التطويل ما فيه. واللغات كلها طافحة بأساليب الإنشاء. وأنها لتحوي من الأساليب الممتعة ما لا تقوى على محوه يد الدهر، ولا تؤثر فيه سنة بقاء الأنسب، فهي صامدة للصروف لا ترث منها القوى ولا ينصل لونها وهي صافية نقية كزرقة السماء. وهذه الأساليب يصح أن نطلق عليها أسم الأدب الجديد، وهي الخالدة، وهي مرجع الطلاب والأدباء، كساها منشئوها المعنى الجميل في المبنى السليم، فأضحت لا تنبو عنها الأذن ولا ينكرها أي جيل، وهو بها قرير ضنين.

وما يقال في النثر يقال في الشعر. فالشعر الناضج بالعصير الشهي لا يفنى، على حين أن الشعر اليابس لا تقوم له قائمة في سوى يومه ولو أنشد المتنبي، فأن شعر عمر بن أبي ربيعة، وجميل بثينة، وكثير عزة، وأبن الدمينة، وعباس أبن الأحنف، وأبن زريق، وأبي نؤاس، والشريف الرضي، والبهاء زهير، وأبن المعتز، وأبي الفراس، وشعراء الأندلس في معظمهم، مما أن يصح أن يقال اليوم وينشد، وتقتبس طريقته، ويهتدي بنوره، اللهم إذا تغاضينا عن بعض مناحي هذا الشعر اقتضاه روح العصر، وكثيراً ما يكون هذا الروح

<<  <  ج:
ص:  >  >>