فأن هؤلاء الشعراء جمع منظومهم الرقة والروعة والوضوح، وكل شعر يرتع في هذه الميزات لا يعرف الأنقاض، خصوصا وهو مستمد من العاطفة، والعاطفة لا تموت، فالقلوب تخفق أبدا بها. وكل شعر أوحت به العاطفة وعته الذاكرة، وردده اللسان، وأبتهج به الخاطر، وتناقلته الكتب والأفواه من عهد إلى عهد، وهو الشعر الذي يفرض مشيئته على الأيام والسنين.
وللشعراء الهجائين منزلة وشأن لدى الحفاظ والرواة. ويمكن القول أن شعرهم يقوم على العاطفة، أفلا تتبدل هذه العاطفة بما يتبدل به القلب؟. . ألا تخضع لسلطان الهوى؟. . . وشعر الهجاء يثيره الهوى. إذا فهو شعر عاطفي. ولهذا الشعر حظه من البقاء والخلود أن يكن جميلا وفريدا، على طراز ما أتحفنا به الحطيئة والأخطل والفرزدق وجرير وبشار ودعبل وأبن الرومي والمتنبي. فأن شعر الهجاء أقرب إلى الحفظ وأبقى أثرا. فالنفس وهي الأمارة بالسوء تميل إلى الهجاء وترتاح له أكثر منها إلى إحراق البخور وتقبيل الأذيال.
ولسنا ندعو بالخلود لكل شعر عاطفي، ولكننا نقول أن شعر العاطفة يملك ميزة الخلود أكثر من أي شعر آخر، ويأتي بعده شعر الوصف، على أن يكون بليغا رشيقا غير مسبوق إليه. ويقبل في الدرجة الثالثة شعر الحكمة إذا أفرط فيه قائله تبرأ منه الشعر.
ولا يكتب الخلود لشعر الحكمة إلا إذا قاله من أرغم الدهر على الإصغاء إلى إنشاده وأسمعت كلماته من به صمم، ومع أن المتنبي يسير في طليعة من صاغ هذا الشعر فلا يستطاع الجزم بأن حكمياته تستساغ في كل عصر، فهي من بنات عصرها. وقد ظهر خاتم ذلك العصر فيها. ومن المحال أن يحاول تقليدها أي عصر جديد. وكل من استهواه تقليدها فهو من طبقة المحافظين.
لا نكير في أن في هذا الشعر قوة ومناعة وحسن صياغة. ولكن صب الحكمة في الشعر ليس مما يشمله الأدب الجديد. فالأدب الجديد في الشعر عاطفة ووصف. وما جاوز العاطفة والوصف بليد. ويجوز أن تطفو الحكمة في بعض المواقف. الا أن الإغراق فيها يذهب برونق الشعر. ويرصف هذا الشعر فوق أكداس القديم.
ومن الواجب على الأدباء والمتأدبين الإكثار من مطالعة أبي تمام والمتنبي وأبي العلاء.