من أجل رسالته الفلسفية، فاحتفظ بحبهما ولكنه حاربهما في أقدس ما آمنا به من آراء ومعتقدات في قيمة الفن ومعنى الحياة.
ولذلك تعتبر خصومة نيتشة لشوبنهور وفجنر مفتاح شخصيته الحقيقية؛ إذ هي المرحلة التي ابتدأ بعدها يخاطب الحياة كفيلسوف لأن هذه الخصومة لأن هذه الخصومة كانت الأساس الذي بنى عليه أخطر آرائه في القيم والأوضاع والفن. وقد اعتبر نيتشة أن مرحلة الإخلاص للأستاذ والصديق كانت مرحلة نوم عميق وتخدير لطلبات الحياة فبدا كالهادم العابث الذي زال من صدره عامل الرحمة والإشفاق حين راح يحطم أسوار الشرائع أبراج الأخلاق.
يقول نيتشة:(يجب على طالب الحقيقة ألا يحفل بما تجنيه عليه جهوده من انتصار أو اندحار فهذا من شأن الحقيقة، إذ عليه أن يكون خصماً قاسياً لما آمن به من آراء وحقائق؛ فإذا صادفه من الآراء ما يناقض الحقائق التي قال بها فعليه أن يأخذ بها دون تردد) - وهكذا كان رأي نيتشة في كل شيء فهو مخلص للحقيقة حتى ولو كانت ضد آرائه التي قال بها.
يقول نيتشة عن صداقته لفجنر وعن اتجاهه الفلسفي:(كنا صديقين غريبين. . . كلاهما له غايته وله سبيله. . . قد نتلاقى ونرفع أعلام اللقاء كما فعلنا. . . ولكن الضرورة التي لا تدفع قد تقذف بمركبينا قذفة جديدة نحو بحار مختلفة وأنواء متباينة. قد نتراءى ولكن لا نتلاقى. . . كم لوحتنا الشمس والأمواج!! نظل غريبين لأن الشريعة الغالبة تريد ذلك، ولكن صداقتنا تبقى شيئاً قدسياً. . . وهكذا نريد أن نؤمن بصداقتنا في النجوم؛ حتى في العهد الذي يجب أن نكون فيه خصمين على الأرض).
إن هذا وحده يكفي للاستدلال على أن نيتشة يحترم عزيز الذكريات في نفسه لصداقته للفنان؛ ويجحد بعنف رسالة فجنر الفنية لأنها لا تمثل حقيقة الحياة، وفي ذلك اعتراف ضمني على أنه لم يأخذ من فجنر شيئاً ولم يتأثر به. وقد رأينا فيما مر بنا من الأدلة شيئاً من الجزم والوضوح يكفي لهدم ما يدعيه الأستاذ (الخميسي) من أنه (فتق أكمام عبقرية نيتشة):
فما كان لهذا المفكر الجبار أن يتأثر أو يستمد وجوده الفلسفي من أي إنسان مهما تكن