الهائل في الأفق العلمي الذي مازلنا إلى الآن نسمع صداه، شجعه على القول هذه الدعوة رغبته في الفرار من وجه أعدائه وأعداء أسرته في البلاد العربية الذين بالغوا في اضطهاده وطلبه، وسعوا جهدهم في النكاية به. رحل الأمير إلى صقلية وأقام بها مدة حياته حتى قبض إلى رحمة ربه سنة ١١٦٦ م. وهكذا كان حظه حظ جده الأول إدريس. كلاهما أستخلص لنفسه الحياة من مخالب الموت، وفر من حظيرة الاضطهاد الضيقة الأنحاء إلى بحبوحة الملك الواسعة الأرجاء. كلاهما شاد بجده وعزمه دولة أدريسية، غير أن دولة جده انقضت وأخنى عليها الدهر، ودولته هو خالدة لا تنقضي. والأمر ليس بغريب. فهذا شأن دولة العلم نصيبها الخلود والبقاء بينما تقضى دولة الملك وتفنى. رحل هذا العالم الجديد والأمير النبيل إلى صقلية وقضى بقية أيامه هناك، قضاها في الأنتاج والعمل المثمر. لم يحدد المؤرخون الوقت الذي رحل فيه الإدريسي إلى صقلية تلبية لدعوة مليكها رجار (روجر الثاني) ولم يذكروا في أي سنة كان هذا. غير أننا نستطيع أن نأخذ برأي الأستاذ (كونراد ميللر) ونستنبط ذلك من الحوادث التاريخية المرتبطة بالموضوع، وعليه فلنا أن نفرض أن ذلك حدث قبل سنة ١١٣٨ م بقليل. فأننا نعلم في تلك السنة عقد (رجار الثاني) العزم على العمل لوضع خريطة جغرافية ووضع كتاب يشتمل على وصف أجزاء المعمورة المعروفة في ذلك الوقت. خذا الأمر الخطير الذي لعب الإدريسي فيه دور البطل.
٣ - صقلية في ذلك العهد وحالة البلاط الملكي في الدم
كانت صقلية في ذلك العهد ملتقى العقول المفكرة، ومحط رحال العلماء يأتون إليها من كل فج عميق، وكانت بالرم العاصمة كعبة رجال العلم يسعون إليها من الشمال والجنوب لما عرف عن مليكها رجال الثاني النورماني من محبته للعلم وتقديره للعلماء واحترامه لهم من أي جنسية كانوا، والى أي ملة انتسبوا. فقد كان بلاطه بحق حرم العلم، من دخله من العلماء كان آمناً. هنا التقت الحضارة الإسلامية بالحضارة المسيحية، وتعرف فن الشرق المسلم إلى فن الغرب المسيحي فتآخيا وأخذا يعملان جنباً إلى جنب إخواناً متحابين لمصلحة العلم وفي سبيل خير العالم. هناك ورث النورمانيون حضارة العرب الذين حكموا الجزيرة ٢٤٢ سنة من سنة ٨٣٠ إلى ١٠٧٢ م والذين ورثوا حضارة الروم من قبل. في ذلك الوقت كانت الحروب الصليبية قائمة على قدم وساق، فكان هذا سبباً لوفود كثير من