الجماعة مساغاً، فلا بأس عليه أن يكذب ويخدع ويفتري ويلبس الحق بالباطل، ويبذل المال إن استطاع، ويستعين بالشهوات إن قدر، ويتوسل بكل ما عرف الناس من وسائل الدعوة أو الدعاوة.
وإن لم تجد الدعوة، ولم ينفع الخداع والتلبيس، والتسميع والتشهير، فلا بأس أن يوجه حريته إلى الإخلال بالنظام، وإشاعة الفوضى، وعمل كل ما يذهب بسكينة الجماعة، ويخل بأمنها، ويقضي على طمأنينتها، ويصرفها عن عملها، ويذيع بينها التعادي والتنافر، والتخاصم والتقاتل، لتجد آراؤه في هذه الضوضاء مجالاً، وفي هذه الفوضى مسلكاً، وفي هذا القلق طريقاً، وفي هذا الحراب مأوى!
وللداعي من هؤلاء أن يستمسك بحقه في الحرية لنشر رأيه، فيقتل من يخالفه، من فرد أو جماعة، ويهدم الأبنية وينسفها نسفاً ليرغم الناس على الإذعان لرأيه. . . وماذا عليه في هذا؟ أليس حراً في أن ينشر مذهبه كما يشاء؟ هو حر، وليس للمخالف حرية مثله في أن يستمسك برأيه ويدفع عنه؛ بل ليس له الحرية في أن يعيش. وإذا أخذ بجريرته نادى بحقه في الدفاع عن نفسه والاستعانة بالمدافعين، وطالب بحريته في أن يقول ما يشاء، قبل أن يقضى عليه.
صارت هذه الحرية البائسة كلمة تقال في الحق والباطل، وينادي بها في الخير والشر، والصلاح والفساد. وأين هؤلاء الأغرار من أخلاق الأحرار؟ لقد اشتبه عليهم الأمر، والتبست عليهم السبل، فهم في أمر مريج.
هذه فوضى المذاهب والآراء، فوضى الحرية في الدعاء إليها والدفاع عنها!
وفوضى أخرى في سنن الجماعة وآدابها، وعمل الفرد وسيرته: فتحت على الناس أبواب من اللذات، وزينت لهم فنون من الشهوات، ونشأت بجانبها ضروب من التجارة وألوان من المكاسب، اتخذت إليها سبلاً شتى؛ وطرقاً مختلفة، لا يبالي سالكوها بما يقترفون إن أصابوا الربح الذي يبتغون!
افتن تجار المآثم في التزيين والترغيب والفتنة، فهفا كثير من الناس إليهم وعلقوا في شراكهم. وللناس شرائع تعصمهم من المآثم، ولهم آداب ومروءات تمسك بهم عنها، وفيهم إباء وحياء؛ ولكنها لذات فاتنة، وشهوات قاهرة، وخدع غالبة، وفتن محيطة. فيرجع