أوتي من علم وسلطان، وتسخيره للجن، ومعرفته للغة الطير والنمل وسائر الحيوان وما يشبه ذلك من التفاصيل التي تهيئ جو الرواية. والكاتب يسير على نهج القرآن في ترتيب الحوادث وتتابعها، لا يكاد يختلف عنه في شيء - من هذه الوجهة فحسب بالطبع. وإن اختلف القرآن والتوراة أخذ برواية الأول منهما في غالب الأحيان. وجل ما أخذه من الكتاب المقدس من هذه التفاصيل التي قلنا أنها تهيئ الجو المعنوي للرواية وما يسمى في لغة المسرح (بالديكور) زوجات سليمان الألف، وماشيته، وبذخ قصوره الذي لا يحيط به وصف، وثراؤه الذي لا يحده حصر. ولعل الكتاب المقدس هو الذي أوحى إليه بفكرة الرواية ولو من بعيد، أو على الأقل بالخاتمة التي انتهى إليها سليمان. ففيه أن سليمان - وكان يهيم بالنساء - قد حاد في شيخوخته عن سبيل الحكمة بإغراء من نسائه الأجنبيات اللائى حولن قلبه عما كان قد عاهد عليه ربه، فأصر الله على أنه ينتقم لعهده، ولكن لا من سليمان نفسه بل من أبنه. غير أن الكتاب المقدس لا يقول بأن بلقيس هي التي كانت سبباً في سقطة سليمان كما في المسرحية، ولكنه يرجعها إلى ًهيامه بالنساء على كل حال. ومع ذلك فنحن نعلم من قصة أخرى حبشية تتصل بتفاسير العهد القديم، أن سليمان أحب بلقيس، وسواء أبادلته بلقيس الحب أم لم تبادله، فأن هذا الحب قد أثمر مولوداً تنحدر من ذريته سلالة البيت المالك الحبشي. ولكنا لا نعرف أن كان مؤلفنا قد علم بأمر هذه الرواية أم لا.
هذه قصة الملك سليمان أو نبي الله سليمان كما وردت في الكتب المقدسة والأساطير القديمة. فماذا صنع بها توفيق الحكيم؟ كيف خلق منها بفنه وفكره شيئاً جديداً، عملاً أدبياً ورواية تمثيلية؟ قبل أن نجيب عن هذا السؤال نفضل أن نشير إلى بعض المسالك التي يسلكها المؤلفون عادة في استخدامهم للأساطير وحوادث التاريخ في الأدب القصصي والتمثيلي، لنرى أيها اختار توفيق الحكيم:
قد يعمد الكاتب إلى الحادث التاريخي فيصوغه صياغة جديدة ليجعل منه قصة أو رواية فنية، دون أن يضيف إليه شيئاً من لدنه غير الصياغة والأسلوب القصصي أو التمثيلي، اللهم إلا أن يعمد إلى بعض نقط لم تكن بارزة في النص الأصلي، وإن كانت مما يسلم به ولو ضمناً، فيبرزها ويضخمها، أو إلى بعض الأبطال فيبالغ في إظهار بطولتهم ويشيد بفضائلهم، ولكنه لا يختلف اختلافاً جوهرياً عن وجهة نظر النص الأصلي؛ بل إن كان