للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

والشقاء، ومفتاحه في يد الأقدار، في يد تلك القوة الخفية التي تديره وتدير معه الإنسان (من خارجه) ولا سلطان لغيرها عليه. وتمزيق شخصية الإنسان على هذا النحو قد يرضي الأمثال المأثورة والحكم العامية، ولكن عقل المفكر قد ينبو عنه بعض الشيء. لأن الحب مثلاً قد يكون مبعثه الإعجاب والتقدير الشعوريين أو غير الشعوريين؛ وقد يكون منبعثاً عن أشياء أخرى كثيرة كامنة في عقل المحب الباطن، وعدم إطلاعنا عليها لا يبرر حكمنا عليها بالعدم. ولكن المؤلف يجعلنا نرى سليمان - ذلك الشيخ المتصابي، ذلك الزواج الذي يقتني في قصوره ألف امرأة - يهيم ببلقيس بمجرد أن سمع أسمها من الهدهد، وكأنه مدفوع إلى هذا الحب بتلك (القوة الخفية) التي تديره دون أن تختلط بنفسه والتي لا قبل له بها.

ويكشف لنا سليمان عن هذا الحب (الشيطاني) بدعوتها لزيارته، وفي قلقه وهو ينتظر مقدمها في قصره، حتى لكأنه جالس عل أحر من الجمر، وفي غيرته من منذر لما (حدثته بصيرته بأنه المالك لقلب الملكة دونه. وهو الذي (شم عطرها وبينهما بحار من رمال، ودعاها وبينهما آماد طوال). وما تكاد تستقر في ضيافته حتى (يفاوضها) في أن (تنزل) له عن قلبها، بعد أن صرحت له بهيامها بغيره. فإذا أنس منها إعراضاً راح يبهر عينها بمساعدة العفريت، ويمخرق لها بشعوذته وألاعيب سحره. قد يعترض علينا معترض بأن هذه الأشياء موجودة بالفعل في النصوص القديمة، وأن المؤلف لم يفعل غير أن استغلها في إبراز فكرته ودغمها ولكنه على أية حال استغلال غير موفق. بعد هذا عماذاً تنجلي التجربة، أو المعجزة إذا شئنا؟ عن إصرار بلقيس على ألا (تبيع) إلى سليمان، وإمعانها في حب منذر، إذ (لو كان قلبها في يدها ما زال حرا لمنحته إياه مرة أخرى) (هذه المرة دون تدخل القوة الخفية!!). ثم عن حب مكتوم ولكنه متبادل بين منذر وشهباء وصيفة بلقيس، كشف يفاجئ بلقيس فيكاد يقضي عليها بقسوته، ويهيئ بذلك الفرصة (لنبي الله) ليضاعف من شماتته بها وضحكه من خيبة أملها. أليس هو الذي يقول واصفاً لهذا المنظر: (استخدمت وسائل فظيعة لقهرها وتعذيب قلبها. . . لقد أردت التشفي من صدها برؤية دماء نفسها تشخب وجراح فؤادها تسيل. . . حتى انهدت بين يدي وانهارت وأنا أرسل في وجهها الشاحب الضحكات). وأي ضحكات؟ ضحكات تدوي بها أرجاء القصر، مما لا نتصور صدوره من شخص أضناه الحب وأذله.

<<  <  ج:
ص:  >  >>