للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

المعاني التي نجدها لها في القاموس، فليس ما بين يدينا من معاني الألفاظ في المعاجم سوى هذه المعاني المتبلورة؛ والأديب البليغ هو من يستنفد ما للألفاظ من معان أضفاها عليها الزمن، فتثير في النفس أعمق الاحساسات، وتملأ الخيال بشتى الصور. وإذا شئت فانظر في القاموس إلى معاني كلمات: أم، وطفولة، ومدرسة، ووطن مثلاً، فالأم في اللغة هي الوالدة؛ ولكن هذا اللفظ يثير في النفس إذا سمع أسمى معاني الحب، وأقدس ألوان العواطف، وأشرف آيات الإيثار، وأعمق معاني الحنان.

وليست الطفولة سوى وقت الصبا في القاموس، أما إذا سمعت فإنها تثير تلك الخواطر التي تحوم حول هذه الأيام النضرة، وعلى هاتيك الملاعب العزيزة؛ وكم ذكريات تثيرها المدرسة في النفس، حول عهود محبوبة، وآمال مرتقبة، وأصدقاء مختارين، بينما هي في المعجم مكان الدراسة.

أما كلمة الوطن فقد تراكم حولها من المعاني والذكريات ما أشار أبن الرومي إلى بعضه حين قال:

وحبب أوطان الرجال إليهم ... مآرب قضاها الشباب هنالكا

إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم ... عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا

فلا عجب أن تثير كلمة الوطن في النفس هذه الذكريات العذبة المحبوبة. وإن أردت أن تدرك شدة وحي الألفاظ فاقرأ قوله تعالى: ولا يغتب بعضكم بعضاً، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً؟ وانظر أي تقزز ونفور يثيره في النفس تخيل أكل لحم الأخ ميتاً. . .

واقرأ قول الشاعر:

وقانا لفحة الرمضاء واد ... سقاه مضاعف الغيث العميم

نزلنا دوحة، فحنا عليه ... حنوا المرضعات على الفطيم

وأرشفنا على ظمأ زلالا ... ألذ من المدامة للنديم

يصد الشمس أنى واجهتنا ... فيحجبها، وبأذن للنسيم

يروع حصاه حالية العذارى ... فتلمس جانب العقد النظيم

وانظر ما توحي به إلى النفس (لفحه الرمضاء) فإنها تشعرك بهذا الهواء الساخن يلفح وجهك، ويرمض عينك، فتكاد تضع يدك على هذا الوجه، تحجب بها عنه السخونة

<<  <  ج:
ص:  >  >>