المعاني التي نجدها لها في القاموس، فليس ما بين يدينا من معاني الألفاظ في المعاجم سوى هذه المعاني المتبلورة؛ والأديب البليغ هو من يستنفد ما للألفاظ من معان أضفاها عليها الزمن، فتثير في النفس أعمق الاحساسات، وتملأ الخيال بشتى الصور. وإذا شئت فانظر في القاموس إلى معاني كلمات: أم، وطفولة، ومدرسة، ووطن مثلاً، فالأم في اللغة هي الوالدة؛ ولكن هذا اللفظ يثير في النفس إذا سمع أسمى معاني الحب، وأقدس ألوان العواطف، وأشرف آيات الإيثار، وأعمق معاني الحنان.
وليست الطفولة سوى وقت الصبا في القاموس، أما إذا سمعت فإنها تثير تلك الخواطر التي تحوم حول هذه الأيام النضرة، وعلى هاتيك الملاعب العزيزة؛ وكم ذكريات تثيرها المدرسة في النفس، حول عهود محبوبة، وآمال مرتقبة، وأصدقاء مختارين، بينما هي في المعجم مكان الدراسة.
أما كلمة الوطن فقد تراكم حولها من المعاني والذكريات ما أشار أبن الرومي إلى بعضه حين قال:
وحبب أوطان الرجال إليهم ... مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم ... عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
فلا عجب أن تثير كلمة الوطن في النفس هذه الذكريات العذبة المحبوبة. وإن أردت أن تدرك شدة وحي الألفاظ فاقرأ قوله تعالى: ولا يغتب بعضكم بعضاً، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً؟ وانظر أي تقزز ونفور يثيره في النفس تخيل أكل لحم الأخ ميتاً. . .