الممضة، وتحس كما أحس الشاعر بفضل هذا الوادي عليه، فقد حماه من وهج الشمس وسطوة الحر، فلا غرابة أن يدعو له من كل قلبه أن يسقيه مضاعف الغيث. وانظر ما توحي به إلى خيالك كلمة (دوح) من ظل ظليل، ونسيم بليل، تسكن إليه النفس بعد لفحه الرمضاء. وتخيل حنو المرضعات وما يثيره من معاني العطف والحنان. أما (أرشف) فتوحي إليك بهذه المتعة التي يحس بها الظمآن لفحه حر الشمس فأوى إلى ظل ظليل، وأخذ يشرب على مهل، ليستمتع بالماء الزلال، وكيف يجده حينئذ ألذ من المدامة. وتخيل كذلك ما يثيره عندك كلمة (يروع) والصورة التي ترسمها، وكلمة العذارى، وموضع الفاء التي تدل على هذه الحركة السريعة الناشئة من الروعة.
وهكذا استطاع الأديب بهذه الألفاظ الموحية أن يسيطر على خيالنا، وأن ينقل إلينا إحساسه وشعوره. ولعل هذا هو السر في أن علماء البلاغة قد كرهوا استعمال الكلمات الغريبة لأنها تعجز عن أن تثير في النفس معنى قبل البحث عنه، فضلاً عن أن تثير هذه الخواطر التي تحيط بالكلمة إذا استعملت.
على أنه قد يشفع في بعض الأحيان لاستخدام الكلمة الغريبة أنها وضعت في موضع سهل الأسلوب فهمها، وكانت هي جرسها موحية بمعناها، ولعل من ذلك قول شوقي:
خلوا الأكاليل للتاريخ أن له ... يدا تؤلفها درا ومخشلبا
فهذا الجمع بين الدر والمخشلب يوحي بما بينهما من البون الشاسع، وفي حروف الكلمة الغريبة ما يوحي بأنها تعني شيئاً حقيراً.
والإحساس اللغوي عند الأديب هو الذي يختار اللفظ اختياراً دقيقاً، بحيث يؤدي المعنى على وجه لا لبس فيه ولا اضطراب، وهو لذلك يلحظ الفروق الدقيقة بين الكلمات ويأخذ بينها أمسها بمعناه، حتى تقوم بواجبها من التوصيل الصادق. سمع ابن هرمة أديباً ينشد قوله:
بالله ربك أن دخلت فقل لها ... هذا ابن هرمة قائما بالباب
فقال له: لم أقل (قائماً)، أكنت أتصدق؟ قال:(قاعداً)؟ فقال: أكنت أبول؟ قال: فماذا؟ قال:(واقفاً)، وليتك علمت ما بين هذين من قدر اللفظ والمعنى.
بل إن الإحسان اللغوي قد يرهف ويدق، فيختار من الكلمات ما يكون بين أصواتها وبين