غير أن حرص أهل الفصحى ومؤرخيها عليها، وحفاظهم الشديد على سلامتها، نفرهم من الأمية والعامية، ومن أدبائهما، وشعرائهما. لا يلمون بحياتهم ونتاجهم إلا في حذر وإباء، وأنفة وكبرياء. ولهذا طغى عليهم سيل الحرمان، وسحب عليهم ذيل النسيان. فعاشوا نكرات مغمورة، وأغفالاً مهجورة. . .
وبعد فنحن لا ندري بالضبط، ما موقفنا من الشعراء العوام، وما رأينا في إنتاجهم الشعري؟ أنحمده لهم أم نجحده، ونشكره أم نكفره. وهل نغبط عصرهم عليهم أم نفمطه، ونهنئه بهم أم نعزيه؟. . .
وقد قلنا (الشعراء العوام) لا (شعراء العامة)، لأننا نقصد أولئك الأدباء، الذين شبوا أميين لم يتعلموا الكتابة والقراءة، ولذلك لم يسلكوا سبيلهم إلى المطالعة والبحث والتحصيل والدرس، ولكن غلبت عليهم حرفة الأدب، ونزعت بهم نازعة الشعر، فنظموا بالفصيحة السليمة شعراً قوياً بارعاً، ومشرقاً ساطعاً، يتضمن الجديد من المعنى، والمفيد من الرأي، والسلس من الحديث - فضلا عما نظموه من الشعر العامي.
فهل أمثال هؤلاء وصمة في جبين عصرهم؟ من حقنا أن نشوهه بهم، ونعيره بوجودهم؟ أم نعتبرهم حلية من حلاه، وزينة من زيناته، لأنهم استطاعوا على رغم عاميتهم وأميتهم، أن ينفذوا بفنهم وشاعريتهم، إلى الفصحى، فينظموا بها، ويصوغوا الأبيات مصقولة بصقالها؟.
هؤلاء كشعراء الجاهلية ولكن بفرق يسير. . . وهو أن شعراء الجاهلية كانوا يعيشون والفصحى سليقة في اللسان، تجري مع الخاطر مجرى الطباع. أما شعراؤنا العوام فقد عاشوا في بيئة عامية اختلطت لغاتها وتبلبلت لهجاتها، فكانت محرفة اللسان سقيمة البيان.
هكذا عاش عدد من الشعراء في العصر المملوكي. ولكنهم برغم هذا، قادتهم فطرتهم السليمة، وأذواقهم المصقولة، إلى أن يدلفوا إلى الفصيحة المعربة من، بابها ويعيشوا ردحاً في رحابها، وينظموا الأبيات الرائقة في جنابها. فوعت بطون الأسفار طرفاً من أخبارهم، وروت لمعامن أشعارهم، تنم عن فنهم وتدل عليه، كما نم الأرج عن الزهر، ودل الحرير على النهر.
وكان بعضهم يحكم عاميته، ينظم كذلك الأزجال، وما إليها؛ ولكنه يضرب في وديان من الظرف واللطف، ويفيض بألوان من السحر والبيان.