يمد بصره إلى أفقه وهو يحاول نقده حتى يكونه، على أن الشاعر لا يجب في النقد أن يكون فنانا، فرب شاعر غير فنان يستطيع بما أوتيه من فكر أوتى دقة التصوير أن ينقد الشاعر الفنان.
فالدكتور طه حسين يستطيع أن ينقد أمير الشعراء لا من حيث كونه شاعرا فقط، إذ هو في الفن دون أمير الشعراء، ولكنه في تذوق الفن قد يكون فوقه أو مساويا له، فليس الشعر مرادفا للفن ولا الفن مرادفا له. وقد يكون الشعر فنا كما فد يكون الفن شعرا. والشاعر الفنان يستطيع أن ينقد الشاعر فنانا وغير فنان، فكل من أبدع في التصوير كان في حيزه الإبداع في التصور، وقد يكون في حيز الإبداع في التصور الإبداع في التصوير، وإذا صح لنا أن نطلق على الشعر أنه تصوير الجمال في الحياة صح لنا أن نطلق عليه جمال التصوير، فحيث يكون تصوير الجمال يكون جمال التصوير، وقد يخامر السامع ريب في صحة الأول، وأن الشاعر قد يصور قبيحا في الحياة فلا يخرجه عن كونه شاعرا فيما صور، وجوابه سهل فيما إذا لحظنا ثبوت كون الجمال نسبيا في الحياة وانه لا قبح فيها، وإنما هو جميل كما مر بك في القول على الجمال.
وأما إذا اعتمدنا القول في أن الصور الفنية في الحياة ما هو حسن وما هو قبيح لزمنا القول في أن حد الشعر بجمال التصوير أصح، ولزمنا من جهة أخرى نفي الجمال المطلق عن الفن الطبيعي وهو مرآة الفن الصناعي، فلزم الفرق بين فن الطبيعة وفن الإنسان من حيث حده وتعريفه، وهما فن واحد، إلا أن يكون القبح في الصور الفنية عارضا بعد كونها والجمال ذاته فيها فيستقيم إذ ذاك تحديده الثاني. فالطبيعة لم تبدع غير جميل، وما يتراءى لنا قبيحا فلعارض حور مجراه الطبيعي في نفوسنا، أو لسر فيه خفي عنا إدراكه فعز علينا مناط الجمال فيه، وليس الجمال في الصورة أو التصوير مناطا للجمال في التصوير، ولا شئ من جمال التصوير أو قبحه يستلزم جمال الصورة أو قبحها، فأي جمال في صورة الأحدب يستلزمها جمال تصويرها في قول الشاعر:
قصرت أخادعه وغاب قذاله ... فكأنه مترقب أن يصفعا
أو انه قد ذاق أول صفعة ... وأحس ثانية لها فتجمعا
فاللازم إنما هو جمال التصوير فقط، وجمال التصوير يتحقق في نقل الصورة على أتم