للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

العلم يتصرف في قوانين طبيعية خارجة عن نفس الإنسان كانت العلوم غير مختلفة بين الأمم في قوانينها، فلا تختلف الرياضة أو الكيمياء بين أمة وأمة، ولا بين إنسان وإنسان، إلا بمقدار ما تزيد أمة عن أمة، أو فرد عن فرد، في الإحاطة بقوانين الرياضة أو الكيمياء. وبهذا كان نقل علم من أمة إلى أخرى يسيرا لا إعضال فيه.

وأما الحضارة الإنسانية، فهي مختلفة باختلاف الأمم والأفراد يعسر أن تنقل من أمة إلى أخرى، إذ هي متصلة بصميم النفس، مرتبطة بالعواطف والأخلاق والتاريخ والآداب. ولكل أمة في هذا خصائصها، ولها مزاياها ونقائصها.

ليس هنا مجال الإفاضة في هذا، ولكني أردت أن أشير إشارة عاجلة إلى أن العلم والصناعة لا يسايران الآداب والأخلاق كل حين.

وغاية قولي أن الفجوة بين العلم والأخلاق، ومسافة الخلف بين العقل والروح من أسباب الاضطراب والقلق، والضوضاء والصخب والشقاء، التي تحيط بالإنسان بعد أن سخر الأرض والماء والهواء، فقد أعطى الإنسان بعقله وعلمه ملكا عظيما، وسخر له العالم، وانقادت قوى الطبيعة، ولكنه لم ينل من المعالي الروحية، والفضائل الإنسانية ما يكافئ هذا الملك، ويلائم هذا السلطان، ولم يبلغ من العدل والإحسان والعفة وأخواتها ما يسير هذا الملك على شريعة منصفة، وسنة قويمة، فكان كمن أوتى ولاية ليس أهلا لها، ومن ورث ثروة لا يحسن تدبيرها. ومن أعطى سلطانا تصرف فيه بأهوائه على غير هدى. وكالشرير المسلح بالبنادق والسيارات وما يشبهها مما يمكن له في الشر، ويبلغه مقاصده من الأضرار والإفساد.

ألا ترى إلى قوى العقل وقوانين العلم كيف يوجهها العدوان والبغي، والشره والجشع والضلالة والحيرة، إلى تدمير الحضارة وأهلها.

ولم يكف الأشرار عن الشر على كثرة ما اخترعت الحكومات من وسائل لأخذ المجرمين وتعقبهم ومراقبتهم، وعلى كثرة ما أقامت من شرط وحرس وجيوش، وما سنت من سنن للمحاكمة، وقوانين للعقاب. ذلك بأن كل هذه الوسائل لا تمس النفس، ولا تصل إلى الوجدان، وإنما هي قيود وسلاسل، وأخذ وضبط، وشجن للأجسام، ولو أن ارتقاء النفس الإنسانية كان على قدر افتنان البشر في وسائل السيطرة والأخذ والعقاب ما احتاج البشر

<<  <  ج:
ص:  >  >>