للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أنها لا ترفع من قدر الإنسان، وأن عرض الكاتب لها لا يرفع من قدرها في حد ذاتها، بل يبرزها مشحونة بالمتناقض وبالتافه وما لا يفهم. وإلا فكيف نلمس في حب سليمان لبلقيس وإعراض بلقيس عن مبادلته حبا بحب أثرا لقوة خفية دفعتهما إليه؟ ألا يكون أقرب إلى المنطق أن نرى في رفض بلقيس أن (تنزل) عن حبها لمنذر (لتبيعه) إلى سليمان أثرا لفرديتها المستقلة عن فردية سليمان، وبرهانا على حريتها التي هي غير حرية سليمان؟ عندئذ تصير المسألة صراعا بين حرية وحرية، بين ميول وعواطف وظروف من جهة وميول وعواطف وظروف من جهة أخرى، بين نفس تعيش في زمان ومكان معينين ونفس أخرى تعيش في زمان ومكان معينين أيضاً اللهم إلا إذا كان الأستاذ يشترط في حرية الإنسان ليعترف بها أن تكون شيئا منفصلا عن مقومات شخصيته كل الانفصال، شيئا يدير الإنسان من خارجه على نحو ما رأى في القوة الخفية. أو إذا كان يرى أن الحرية في الحب، بل وفي غير الحب، يجب أن يتمتع بها طرف دون الآخر. فما دام سليمان قد أحب بلقيس فما عليها إلا أن تتبعه كالعجماء يلوح لها بحزمة البرسيم، بل كالحجر يلقى به من حالق دون حرية ودون شعور. وما دامت بلقيس قد أحبت منذرا فما على منذر إلا أن يلغى حريته وكل ما يكون شخصه المعنوي ليبادل بلقيس حبا بحب وهياما بهيام. إن كان ذلك ما يريد الأستاذ الحكيم، فإنه يحمل الحرية ما لا نطيق ويعرفها تعريفا لم يعرفه لها أحد من قبله، فتمنى لبني الإنسان أو لبعض بني الإنسان حرية الآلهة لا حرية البشر ليخرج بهم من حدود البشرية إلى ملكوت الألوهية. وإلا لم يعترف بأن لبني الإنسان حرية. تذكرني هذه النظرة في فهم الحرية بفكرة ساذجة عن الحرية أيضاً يلقنها سارتر لإحدى أبطاله لينقضها ويسخر منها. وكانت هذه الفتاة قد تآمرت مع أخيها على قتل أمها لسبب ما، فقتلاها. ولكن الفتاة بعد الحادث وقعت فريسة للندم، وصمد الفتى للضربة لأنه فعلها بحريته، فيقول لأخته لينتشلها من براثن الندم: (أنا حر يا إلكترا. لقد انقضت على الحرية انقضاض الصاعقة). وتجيبه الفتاة: حرا أما أنا فلست أشعر بأني حرة. أتستطيع أن تعيد ما كان وكأنه لم يكن؟ وقد وقع منا ما وقع ولسنا أحرارا في أن نرجعه إلى ما كان قبل أن يقع: أتستطيع أن تمنعنا من أن نكون قاتلي أمنا إلى الأبد؟ فيرد عليها أورست قائلا: (أو تظنين أني أريد منعه؟ إنه فعلي أنا، وسأحمله على كتفي إلى الأبد). أجل إن حرية الإنسان

<<  <  ج:
ص:  >  >>