للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

المرحوم خليل بيدس:

سلاما وإكراما، وبعد فلا بد أنك سمعت بخليل بيدس وعلمت من هو من الناس.

لقد مات خليل بيدس وكل الناس يموتون. بيد أنه أبى، ويشق على أن أنعاه إليك في مثل هذا الوقت وفي بلاد غير البلاد التي أحبها وتمنى على الله أن يكون فيها مثواه الأخير.

مات أبي بعيدا عن بيت المقدس. وكان أخي قد رجا منه أن يغادرها أسوة بسواه فينقذ نفسه وينجو بمكتبته وأثاث منزله. ولكنه أبى وسفه رأى كل محبذ للفرار، وأكد للجميع بأن الجيش العربي سوف لا يتأخر عن احتلال القدس في ليلة ١٥ أيار سنة ١٩٤٨. كان يؤمن بذلك إيمانا عظيما. . . ويسخر من كل من يرتاب بنوايا الملك عبد الله. بيد أن الملك عبد الله خيب الأمل، وسقطت القدس الجديدة في يد العدو. وكان أبي وابنته هما الشخصين الوحيدين الباقيين في حي البقعة، فانسحبا على أثر احتلال اليهود للتلال المشرقة على ذلك الحي، وكابدا في هربهما المشقات والأهوال.

ولما استقر به المقام في بيروت، وأجال الطرف حوله، فلم يجد كتبه ومخطوطاته ومؤلفاته، ولم يعثر على مقعده ومكتبه، طارت نفسه شعاعا؛ بيد أنه تجلد وأخفى ما جاش في صدره. . . . ولم يزل يتقلب على جمرات متفدة من اللوعة والأسى حتى اخترمه الموت أخيرا، فأراحه من همه وغمه، وأراحه من وصبه وألمه.

وفي الليلة التي فاضت فيها روحه، نفث جميع أحزانه في كلمات وجيزة خاطب بها زوجه. . . قال لها وهو يتألم ولكن لا يدري أنه سينام فلا يستيقظ: نفسي حزينة حتى الموت. .

والشيء الذي حز في قلبي وأرمض نفسي يا سيدي، هو أن يمضي والدي فلا يلتفت إليه أحد ممن نهل منه مناهل أدبه، ولا يكترث بموته مخلوق من الذين كانوا يطرونه ويمتدحونه ويثنون عليه ويشيدون بعلمه وبفضله أثناء حياته. . . وكأنه إنسان عادي ما خدم العلم والأدب وما هذب النشء وما وضع المؤلفات وما أنشأ الفصول والقصص والمقالات. .! هذا الجحود يا سيدي أمضني كثيرا وهذا النكران للجميل هطلت له دموعي.

أرجو أن تتكرم علي أو على الأستاذ خليل بيدس - الذي لم يجد بعد موته من يكتب عنه سوى ابنه - بنشر الكلمة المرفقة مع هذا الكتاب في الرسالة الغراء. وتفضل بقبول جزيل

<<  <  ج:
ص:  >  >>