وهكذا اضطربت الحياة في ناظري الفتى وتزعزعت أركانها، فنشا ضعيف النفس، واهي الروح سقيم الخلق وضيع الهمة، وبدا منقبض الأسارير مشلول العقل، لا يحس السعادة في طفولته ولا يجد اللذة في صباه ولا يستشعر المتعة في شبابه، يأنس بالوحدة ويطمئن إلى الخلوة، وتعقدت نفسه فأنحط عن أترابه، وسفل عن زملائه. ولزمته هذه الخصال فعاش عمره مضعضع الجانب مفلول العزيمة مستلب الحرية.
وحين أنتظم في سلك المدرسة وجد في الكتاب سلوه وعزاء فدفن نفسه بين دفتيه لا يبغي عنه حولا، فصدأ عقله من طول ما أنكب على الدرس، ونحل جسمه من طول ما أرهق ذهنه، وذوى شبابه من طول ما ذاق من حبس ومن حرمان. وإن الطالب في المدرسة ليقع بين عدوين: المدرس والمنهج. فالمدرس في المدرسة يسيطر عليه الفتور والملل فهو يشرح في خمول ويعامل تلامذته في قسوة، لا يندفع إلى العمل في نشاط، ولا يهب إلى الدرس في رغبة، وإن نفسه لتتوثب سخطاً وكراهية حين يحس عنت العمل وضياع الحق، وإن حيويته لتخبوا رويداً رويداً حين يخيل إليه أنه قد تخلف عن الركب، فهو - في رأي نفسه - يبذل غاية الجهد ولا يجد الجزاء، ويستفرغ منتهى الطاقة ولا يلمس الوفاء. أما المنهج فهو أخلاط من العلم ينوء بها العقل المتألق، وأشتات من النظريات يتيه في أضعافها الذهن المشرق، وألوان من الدرس يضل في ثناياها الفكر المتوثب. فما بال أحمد؟ لطالما كان يتعثر في علومه، ولكنه سكن إلى الدرس لا يريم، فهو يخشى وطأة أبيه وإن يده لغليظة، ويكره داره في القرية، وإن جنباتها لموحشة، ولا يطمئن إلى أمه وإن فيها التكسر والخذلان.
وتخرج أحمد - بعد لأي - في مدرسة المعلمين العليا قسم الآداب ولكن أعجزه أن يكون مدرساً ناجحاً بالمدارس الثانوية فأنطلق يتلمس مخرجاً. ووجد الخلاص على يد رجل من رجال الدولة ذي مكانة وشأن، فراح يتملقه ويستخذي له ويستجدي عطفه، فقربه الرجل إلى نفسه وأدناه من مجلسه، ونقله من المدرسة إلى الديوان ليكون صنيعة له هو، وليكون مرءوساً، وليكون آلة صماء يديرها على أي نسق شاء.
وجلس الفتى إلى مكتبه في الديوان وإن قلبه ليتوثب أن رأى نفسه ساقة بين زملائه، منبتاً