للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عن رفاقه، لا يكاد يبلغ شأوهم، ولا يستطيع أن يرقي إليهم، فاستولى عليه اليأس وتملكته الحيرة.

أما الرجل، فهو موظف كبير في الحكومة، وسمته الوظيفة بميسمها ولّفته في خصالها. والوظيفة الحكومية تسم الموظف الكبير بالغطرسة والكبرياء وتصبغه بالعظمة والتسامي، فهو - يركن دائما - إلى من يتملق ويتمسح به، وينفر - أبداً - ممن يحس فيه الإباء والكرامة والشرف. وتسم الموظف الصغير بالضعة والذلة. واطمأن الفتى إلى رئيسه الكبير حين وجد فيه العون والساعد، واطمأن الرئيس إلى الفتى حين لمس فيه الطاعة والاستكانة. وعاش أحمد تبعاً لرئيسه يتصاغر أمامه إن أغلظ له القول، ويتضاءل له إن أرهقه بالعمل، لا يستشعر في ذلك الاحتقار ولا المهانة، وهو يرى أن الأمر قد تهيأ له واستقام، وأن المستقبل - في رأي عينه - قد تفتح له وازدهر على يدي هذا الرئيس. . .

وكان الرئيس يتصنع الأدب ولم توافرت له أداته، ويتكلف العلم وما تكاملت له أسبابه، فاتخذ من الشباب المثقف صنائع ضمهم تحت جناحيه وحباهم بعطف موهوم، بذل لهم الوعد الخلاب، ومد لهم في الأماني البراقة، ثم راح يستنزف شبابهم الغض ويستغل عقولهم الناضجة، فامتلأت داره بمن يقدم له الأبحاث العلمية، ومن يترجم له أمهات الكتب الغربية، ومن ينشئوا له المقالات القيمة لقاء كلمة معسولة، أو ابتسامة عابرة، أو دريهمات لا تقيم أود. . .

ووجد الرئيس في أحمد فتى سلس القياد، سهل الخضوع، لين العريكة، لا يمل العمل وأن أضناه، ولا يضيق بالجهد وأن أسقمه، ولا يقصر في أمر وإن أعضل عليه، فأصطفاه لنفسه وعهد إليه - فيما عهد - أن يترجم فصولا من كتاب الفلسفة

ودخلت - ذات مرة - إلى مكتبه في الوزارة فألفيته جالساً إلى هذا الكتاب يترجم فصوله إلى اللغة العربية، وبين يديه قاموس كبير، ومن حوله رفاقه في المكتب وقد انغمروا في نقاش عنيف صاخب، فامتلأت أرجاء الحجرة بالضجة واللغط والضوضاء والفتى منصرف عن الحديث إلى الترجمة لا يعبأ بما حوله. . . وعجبت أن يؤدي الفتى هذا العمل الفني الدقيق في هذه الضجة الصاخبة، وهو يتطلب المكان الساكن والأعصاب الهادئة والفكر المتفرغ!

<<  <  ج:
ص:  >  >>