للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

والعقلية. وقد غالت الرومانتيكية في أهمية القيم الإضافية الجمالية فأصبح كل شيء في نظرها فناُ، وكل ظاهرة ولو علمية فنية، حتى قيل أن الطبيعة نفسها عمل فني، وإن الكائن الحي نفسه فن، فالفن الحديث ليس في إضافة جمالية إلى قيمة علمية فحسب، بل في اتحاد الفكرتين: العلمية والجمالية في صورة تدرك في العمل العقلي المستمر.

هذه المغالات في الرومانتيكية وهذا التعصب للكلاسيكية آثار الأدباء والنقاد في القرن التاسع؛ فإن سيانت بيف وغيرهما بعد سنة ١٨٥٥ قاموا للمناداة بالحقيقة في قومة ضد الرومانتيكية وضد الكلاسيكية معاً، وفي مصلحة المذهب (السريالزم) (الحقيقة) في الأدب.

لقد ابتدأ أنصار المذهب بوصف العالم الخارجي وحده فالتجئوا إلى الحياة نفسها بوصفها كما هي، ويصفون الأحياء في الأحياء الفقيرة كما هم، ولكنهم أخفقوا لأن الوصف كان لمجرد الوصف لا للحكم عليهم ولا للاهتمام بهم، فكانوا كالنباتيين ينظرون إلى المزروعات التي أمامهم من غير أن يميزوا بين أنواعها ولا بين الفروق البارزة في هذه الأنواع، وكشفت هذه النهضة عن أمثال ستاندال وبلزاك وفلوبير ممن جعلوا لهذه المدرسة الحديثة معالم مقررة، فلم يعد العمل الأدبي خيالياُ محضاُ أو فردياُ محضاُ يصدره الأديب وهو في عالمه الداخلي من غير رعاية للحياة. فلقد نادى فلوبير بأن الإنتاج الأدبي لابد أن يكون موضوعياُ وأن يكون في نفس الأديب عكساُ ذهنياُ لما تعرضه الحياة مؤسساُ على مصادر حقيقية يطيل الأديب فيها النظر ليتخير منها ما يريد (العالم الخارجي) هذه المصادر لا تشل الخيال ولا تمنعه الحركة، فإنه سيكون الرقيب على هذه المصادر والصور يتخير منها ما يتلاءم مع فنه وخياله (العالم الداخلي)، فكان فلوبير يجري هنا وهناك وراء الحقيقة التي تتفق وأحلامه، وبذا ينتقل عمله الأدبي من أن يكون مجرد وصف أو تحليل إلى أن يكون خلقاً وابتكاراً. لهذا أسبغ فلوبير على أدبه نوعاً من المنطق ولكنه منطق الحياة، وأفترض كثيراً من الصور العقلية للطب والفلسفة، ولكنه لم يفترض من الطب والفلسفة قوانين بل افترض منهما معنى الحياة. وأعمال الأبطال في رواياته تبدو طبيعية كما تبدو المسببات عن الأسباب، فالوسط والظروف والأمزجة التي تعيش فيها شخصياته الروائية هي التي تقودهم بدوافعها وتعقدها وتطلعاتها ورغائبها إلى مصائرهم، وكأنها أسباب لنتيجة حتمية

<<  <  ج:
ص:  >  >>