وأخيرا هتف بهم الوطن فلبوا نداءه، ثم عز عليهم أن يهجروه في محنته حين هجره الكثيرون من ابنائه، وكانت العاقبة أن سقط أحدهم شهيدا ولسان حاله يردد قوله:
وأهِوى يعفَّر وجهي ثراك ... قريراً وذلك جهد المقلّ!
وبقي الآخران مرابطين صابرين، أحدهما يجاهد بقلق، بعد أن ألقى من حوله السلاح؛ والثاني ما يزال في خطوط القتال، يبذل حشاشته، ويراوغ منيته. يدفعه أمل باسم يحمله على أن يردد في نجواه: (من طلب الموت وهبت له الحياة)
اتذكر فيما مر بك أن شاعرا قتله بيت من شعره؟ انه المتنبي حين هتف به غلامه: (أتفر وأنت القائل:
الخيل والليل والبيداء تعرفني ... والسيف والرمح والقرطاس والقلم؟)
فرد عنان جواده وقال: (بلى؛ أنا القائل)، ثم قاتل حتى قتل. . وان هذا البطل الذي أسوق إليك نباه قتلته (كذلك) أبيات من شعره! أو تدري كيف؟ كانت جحافل (جيش الاتقاد) تستعد للانسحاب من مدينة (الناصرة)، ما خلا كتائب تنتشر هنا وهناك، يقابلها العدو وجها لوجه. وكان ذلك الفتى يقود كتيبه منها، وصمد هو ورفاقه في وجه العدو المنتصر، حتى ضاقت عليهم السبل، وكادوا يطوقون.
التفت إلى أصحابه يصدر أمره بالانسحاب، فإذا بأحد المجاهدين يصيح في وجهه - وقد ألهبته سورة الجهاد -: وأذلاه! أتفر وأنت القائل: سأحمل روحي على راحتي. .؟) فأجاب - وقد اشرق في وجهه نور الشهادة -: (نعم والله! أنا الذي أقول ذلك (ووثب من مكمنه يخترق حجابا كثيفا من الرصاص، وهو يردد بصوت يسمعه من خلفه:
سأحمل روحي راحتي ... وألقي بها مهاوي الردى
فأما حياة تسر صديق ... وأما ممات يغيظ العدى
ونفس الشريف لها غايتا ... ن ورد المنايا ونيل المنى
أرى مقتلي دون حقي السليب ... ودون بلادي هو المبتغى
لعمرك هذا ممات الرجال ... ومن رام موتا كريماً: فذا!!
وسقط المجاهد البطل يلفظ أنفاسه وهو يردد عجز البيت الأخير: (ومن رام موتا كريما: فذا!!) وكان آخر ما تلفظ به قوله: (الحمد لله على الشهادة. .) ولم يكن ذلك أول جهاد قام