وغفلنا في هذا الغلو عن ضروب من التعليم والتهذيب خارج المدارس وحسبنا أن القراءة والكتابة هي وسيلة التثقيف لا وسيلة غيرها. وكم من أناس نبغوا وهو لا يقرءون، ودرسوا وهم لا يكتبون، هدتهم التجارب وهداهم السمع والبصر إلى ما اهتدى إليه القارئون أو قصروا عنه.
لا أجحد فضل الكتابة على الحضارة، ونعمتها على البشر. ولكني آخذ على الناس الغلو في إعظامها والغلو في احتقار ما سواها من الوسائل. ولا أنكر أن الوسائل الأخرى في أكثر الأحيان راجعة إليها مستمدة منها. لا أنكر هذا وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين. ولكن أدعو إلى أن يسجل الناس معارفهم ثم ينتفعوا بها بكل وسيلة من إقراء أو إشهاد أو إسماع إلى أن تعم الكتابة كل فرد. وكم في تاريخ العلم من نابغ ضرير لم يقرأ.
وانتبهنا فراعنا جموع تغدو وتروح إلى دور العلم، لا تمس الثقافة أرواحها، ولا يتصل العلم بقلوبها، وإذا المدارس كالمطابع تخرج كتباً لا عقولاً، وتكثر أمثلة لا أنفسا، أو كالمصانع ترمي بقوالب متشابهة وأشكال متماثلة.
وانتبهنا فراعنا أن نرى هم الطالب في الجامعة أن يمضي سنوات تنتهي به إلى شهادة، وأن نراه يكتفي بما يجتاز به الامتحان، ويجتاز الامتحان بأية وسيلة، فإذا طوى السنين واجتاز الامتحان وظفر بالشهادة شرع يطالب بحقه في الوظائف، وينادي بما في يده، لا في عقله وقلبه، من شهادة، ويخدع نفسه بما يدعي من علم، ويزدري الناس إذ لم يبلغوا من العلم ما بلغ، ولم تشهد لهم الأوراق كما شهدت له.
وتنظر إلى المتعلم في الطريق وفي المدرسة فلا يرضيك هيئته، وتكلمه فلا يعجبك حديثه، وتختبره فلا يسرك علمه ولا اعتقاده ولا رأيه، إلا قليلاً من الطلبة الصالحين غلبت طبائعهم وأخلاقهم وأسرهم هذه البيئة الفاسدة المفسدة الحائرة الجائرة.
وننظر فإذا التلاميذ يهجرون الدرس إن استطاعوا، ويقعدون عن دور العلم إن قدروا؛ وإذا طلبة الجامعة، وقد أوتوا نصيباً من الحرية؛ يهجرون المحاضرات أو يكتفون بالقدر الذي يحتمه القانون، بل يحتالون له بتوقيعات مزورة أحياناً ليسجلوا لأنفسهم هذا المقدار.
لقد رأيت تلميذاً خارجاً من الجامعة ضحوة النهار ينادي صاحبه في غير خجل (الأمريكيين الساعة ١١). ويكاد يكون الداء كله، والشر جميعه هنا. هذه المقاهي والملاهي التي تجذب