هذا القلق، وكان الأمل أن يبعد، فزهِد طلابه في العلم زُهدَ غيرهم، وضربوا واختصموا وكان منهم ما كان من طلبة المعاهد الأخرى لم يتخلفوا عنهم، ولم تثبتهم سُنن الإسلام، ولا وقرهم تاريخ الأزهر ووقاره وسمعته، ولا عصمهم من هذا البلاء عاصم.
ذلك بأن الأمة عامة لا تحرص على السنن، ولا تعني بالاحتفاظ بالتاريخ، وأن الأزهر خاصة أخذته فتنة الحديث والقديم، فأشفق من تاريخه، وجهد أن ينافس غيره في الأخذ بالمحدثات، وخشي أن يقال إنه دون غيره معرفة بالعصر، ومسايرة له، واقتباساً منه، فغلبه التقليد حقيقة وإن تظاهر بالاستقلال والاجتهاد. ولو ثبته الفكر الحر، ووقره التاريخ المديد، لأخذ من العصر شيئاً ورد أشياء، ووافق في أمر وخالف في أمور، وخط لنفسه من تاريخه ومما أحدثت المدنية من علوم وآداب خطة تميزه، وسار على طريقة هي طريقته ومنهج هو منهجه، ولكان للأمة ملجأ إذا حارت الأفكار وتنازعت الأهواء، ولكان للأمة قدوة في الدين الحق، والعمل الصالح، وفي مقاصد الإسلام ووسائله وسننه وغاياته، وفي البعد عن سفساف الأمور والأخذ بجلائلها.
لقد حافظت جامعات إنكلترا على سننها أكثر مما حافظ الأزهر، وهي لا تتصل بالدين اتصاله، ولا توغل في التاريخ إيغاله.
إننا في حاجة إلى من يقتبس الصالح غير متردد، ومن يتمسك بالصالح غير هياب، ومن يعتد بنفسه وأمته وتاريخه فيقول: هذا حسن وهذا قبيح، وهذا يصلح لي وهذا لا يصلح. ذلكم هو الأساس الذي يرسو عليه البناء، وتلكم الخطة التي تستقيم بها الأمور.
وأنا حين آخذ على الطلبة هذه المآخذ لا ألقي التبعة عليهم، وأرد الذنب إليهم، فإنهم يَنشئون كما يُنَشَّئون، وينبتون كما يزرعون، وتصوغهم البيئة على أحوالها، وتربيهم الأمة على مثالها. لا ألومهم ولكن ألوم البيئة التي سيرتهم هذه السيرة، ولا أحقد عليهم بل أرحمهم مما تهافتوا فيه على غير علم. فأنا أعيب المعلم قبل المتعلم، وآخذ الأستاذ بأشد مما آخذ به التلميذ، وأعيب البيئة والنظام قبل أن أعيب الناشئ الغِرّ، وأشفق على الشاب وأرحمه، وأذم أثر البيئة فيه، وطابع التربية عليه، لنعمل على إصلاحه، ونجهد في إنقاذه.
ولست في قولي هذا يائساً ولا متشائماً؛ ولكني أدعو إلى تدارك الشر قبل استفحاله، ومداواة الداء قبل إعضاله، وإلى تجنب هذه الطرائق، والحذر مما تؤدي إليه، وأنهى عن السير