وقال عنه أبو حيان:(هو أشبه من رأيناه يميل إلى الاجتهاد)
ولعل ابن دقيق العيد كان يرى نفسه مجتهد عصره، فإنه كان يؤمن بأن كل وقت لا يخلو من مجتهد. وقد وضع كتاب الإلمام، وجمع فيه الأحاديث التي يستنبط منها الأحكام، مما يدل على ما وصل إليه من درجة ممتازة في الاستنباط والاستدلال.
وأما في الحديث، فقد برع في معرفة متنه وإسناده وعلله، حتى أصبح أوحد عصره فيه، وله في علوم الحديث مؤلف دعاه (الاقتراح في معرفة الإصلاح)، وإليه أسند وإلى قوص التدريس في دار الحديث التي أنشأها بها.
وقد ساعده على بلوغ هذه المنزلة من العلم ذكاء ممتاز، ودأب على التحصيل، وسهر بالليل للدرس، وشره في القراءة، وغرام بالإطلاع. قال الأدفويّ في الطالع السعيد:(كان له قدرة على المطالعة. رأيت خزانة المدرسة النجيبية بقوص فيها جملة كتب، من جملتها عيون الأدلة لابن القصَّار في نحو من ثلاثين مجلدة، وعليها علامات له. وكذلك رأيت كتب المدرسة السابقية، رأيت على السنن الكبير للبيهقي، فيها من كل مجلدة علامة، وفيها تاريخ الخطيب كذلك، ومعجم الطبراني الكبير، والبسيط للواحدي، وغير ذلك)؛ وأخبرني شيخنا الفقيه سراج الدين الترندري أنه لما ظهر الشرح الكبير للرافعي اشتراه بألف درهم وصار يصلي الفرائض فقط، واشتغل بالمطالعة إلى أن أنهاه مطالعة. ويقال إنه طالع كتب مكتبة المدرسة الفاضلية عن آخرها، وكانت ذات مكتبة ضخمة حافلة.
وإلى جانب غرامه بالقراءة كان كثير النقد والتحري والتدقيق فيما يقرأ، لا يقبل الشيء من غير أن يعمل فيه فكره فيقبله أو يرفضه.
ولعل كثيرين من مقدريه وعارفي فضله قد نصحوه بمغادرة قوص إلى القاهرة، حيث يظفر فيها بالتقدير وبعد الصوت والرزق الواسع، وحيث يجد المجال واسعاً لذيوع علمه والشهرة ورفيع المناصب، وقد تردد ابن دقيق العيد في قبول هذا العرض، ظنَّا منه أن نيل ذلك كله لا يكون إلا بفقد شيء من الكرامة، والتهاون في كثير من أمور الدين، وهو يحدثنا عن ذلك في قوله:
يقولون لي: (هلا نهضت إلى العلا ... فما لذ عيش الصابر المتقنع
وهلا شددت العيس حتى تحلها ... بمصر إلى ذاك الجناب المرفع