ففيها من الأعيان مَن فيض كفه ... إذا شاء روى سيله كل بلقع
وفيها قضاة ليس يخفى عليهمُ ... تيقن كون العلم غير مضيّع
وفيها شيوخ الدين والفضل والأولى ... يشير إليهم بالعلا كل إصبع
وفيها. . . وفيها. . . والمهابة ذله ... فقم، واسع، واقصد باب رزقك، واقرع)
فقلت: (نعم أسعى إذا شئت أن أُرَى ... ذليلا مهاناً مستحقاً لموضع
وأسعى إذا ما لذ لي طول موقفي ... على باب محجوب اللقاء ممنع
وأسعى إذا كان النفاق طريقتي ... أروح وأغدو في ثياب التصنع
وأسعى إذا لم يبق فيَّ بقية ... أراعي بها حق التقى والتورع
وكم بين أرباب الصدور مجالس ... يشب لها نار الغضا بين أضلع
فإما توقي مسلك الدين والنهي ... وإما تلقي غصة المتجرع)
وكان في صميم قلبه يرجو أن يظفر بالرفعة من غير أن يفقد في سبيلها كرامته، وهذا هو السر في نقمته على أرباب المناصب الذين لم يعرفوا قدره، ولم ينزلوه ما هو جدير به من رفيع المنازل، تحس بذلك في قوله:
أهل المناصب في الدنيا ورفعتها ... أهل الفضائل مرذولون بينهم
قد أنزلونا لأنا غير جنسهم ... منازل الوحش في الإهمال عندهم
فما لهم في توقي ضرنا نظر ... وما لهم في ترقي قدرنا همم
فليتنا لو قدرنا أن نعرّفهم ... مقدارهم عندنا أو لو دروه هم
لهم مريحان: من جهل وفرط غنى ... وعندنا المتعبان: العلم والعدم
ولكن يظهر أن الحالة المالية لابن دقيق العيد دفعته إلى المجيء إلى القاهرة، حيث ولي المدرسة الصلاحية سنة ٦٨٠، ودرس الحديث بدار الحديث الكاملية وكان له منزل بها، وعلم الفقه على مذهبي الشافعي ومالك بالمدرسة الفاضلية، كما درَّس أيضاً بالمدرسة الصالحية والقبة المنصورية.
ومع ذلك لم يُثرِ ابن دقيق العيد، بل لم يدفع عن نفسه شر الفاقة، وكان يضطر إلى الاستدانة أحياناً، وإن كان قد ظفر أخيراً بالثراء والرخاء، فاستمتع وأكثر من التسري، وكان ينعى حظه قائلا: