للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

سحاب فكري لا يزال هامياً ... وليل همي لا أراه راحلا

قد أتعبتني همتي وفطنتي ... فليتني كنت مهيناً جاهلا

وربما كانت رغبة ابن دقيق العيد في الاستمتاع بمباهج الحياة هي التي دفعته إلى أن يعترف للشيخ زكي الدين بأنه أدين منه. حكى تاج الدين الدشناوي قال: (خلوت به مرة فقال: يا فقيه، أفزت برؤية الشيخ زكي الدين عبد العظيم؟ فقلت: وبرؤيتك؛ فكرر الكلام، وكررت الجواب؛ فقال: كان الشيخ زكي الدين أدين مني؛ ثم سكت ساعة وقال: غير أني أعلم منه!

وظفر ابن دقيق العيد بشهرة واسعة، وصوت بعيد، وتقدير عميق في قوص والقاهرة، حتى في أيام أساتذته. وفي سنة ٦٩٥ ولّي قضاء قضاة الشافعية في الديار المصرية، وقد استقبل كثير من مقدريه قبوله هذا المنصب بشيء من العتب عليه واللوم، ورأوا فيه حطاً من عظيم قدره، وكانوا يفضلون بعده عن مناصب السلطان ويعدون ذلك زلة له، ولكني لا أوافقهم على ما ذهبوا إليه، ولا سيما أن ابن دقيق العيد كان أحب الناس برعاية الحقوق وإحقاق العدالة، ورسائله إلى من كان يعينهم من القضاة يحثهم فيها على تحري الحق، ويخوفهم من الظلم، ويشعرهم بما عليهم من التبعة تدلنا على مقدار ما ظفر به المنصب يوم حله هذا العالم الممتاز. وكان هو نفسه يشعر بثقل العبء الملقى عليه قاضياً، فكان يقول: (والله ما خار الله لمن بلي بالقضاء)؛ ويقول: (لو لم يكن إلا طول الوقوف للسؤال والحساب لكفى). وأثر عنه في القضاء آثار حسنة، منها انتزاع أوقاف كانت أخذت واقتطعت لمقتطعين، ومنها أن القضاة كان يخلع عليهم الحرير، فخلع على الشيخ الصوف واستمرت، ورتب على الأوصياء مباشراً من جهته، وكان يكتب إلى نوابه يذكرهم ويحذرهم.

ولم ينج ابن دقيق العيد وهو في منصب القضاء من ساخطين عليه، هجوه بالشعر حيناً، وبالزجل حيناً آخر. قال برهان الدين المصري الحنفي الطبيب، وكان قد استوطن قوص سنين: (كنت أباشر وقفاً فأخذه مني شمس الدين محمد بن أخي الشيخ وولاه لآخر، فعز عليَّ، ونظمت أبياتاً في الشيخ فبلغته، فأنا أمشي مرة خلفه وإذا به قد التفت إليَّ وقال: (يا فقيه، بلغني أنك هجوتني؟) فسكت زماناً فقال: (أنشدني)؛ وألح عليَّ، فأنشدته:

<<  <  ج:
ص:  >  >>