وليت فولي الزهد عنك بأسره ... وبان لنا غير الذي كنت تظهر
ركنت إلى الدنيا وعاشرت أهلها ... ولو كان عن جبر لقد كنت تعذر
فسكت زماناً، ثم قال: ما حملك على هذا؟ فقلت: أنا رجل فقير، وأنا أباشر وقفاً أخذه مني فلان؛ فقال: ما علمت بهذا. ورد الوقف إليه.
وارتفعت منزلته عند سلاطين عصره، فكان السلطان لاجين ينزل له عن سريره ويقبل يده. وفي سنة ٦٩٨ بعد وفاة الخليفة العباسي الحاكم بأمر الله، أرسل إليه السلطان الناصر محمد يستشيره فيمن يوليه الخلافة بعده.
واستمر ابن دقيق العيد في منصب القضاء، وإن كان قد عزل منه نفسه أحياناً، حتى مات يوم الجمعة حادي عشر صفر سنة ٧٠٢، ودفن يوم السبت بسفح المقطم.
قال الأدفوي في الطالع السعيد: (وكان ذلك يوماً مشهوداً عزيزاً في الوجود، سارع الناس إليه، ووقف جيش مصر ينتظر الصلاة عليه، رحمه الله تعالى، وهو ممن تألمت على فوات رؤيته، والتملي بفوائده وبركاته).
ورثاه الشريف محمد بن محمد القوصي بقصيدة طويلة منها قوله:
سيطول بعدك في الطلول وقوفي ... أروي الثرى من مدمعي المذروف
لو كان يقبل فيك حتفك فدية ... لفديت من علمائنا بألوف!
يا طالبي المعروف، أين مسيركم؟ ... مات الفتى المعروف بالمعروف!
ما عنَّف الجلساء قط، ونفسه ... لم يخلها يوماً من التَّعنيف
يا مرشد الفتيا إذا ما أشكلت ... طرق الصواب، ومنجد الملهوف
من للضعيف يعينه أنَّى أتى ... مستصرخاً، يا غوث كل ضعيف
أفنيت عمرك في تقي وعبادة ... وإفادة للعلم أو تصنيف
لهفي على حبر، بكل فضيلة ... علياء من زمن الصبا مشفوف
كان الخفيف على تقيّ مؤمن ... لكن على الفجار غير خفيف
أمنت أحاديث الرسول به من ... التبديل والتحريف والتصحيف
ومضى وما كتبت عليه كبيرة ... من يوم حل بساحة التكليف
صبراً بنيه، قوة من بعده ... صبر الكريم الماجد الغطريف