للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

نحتها الحفار. إذ تركه في مقطوعته الشعرية يصيح من الألم صيحات منكرة، ولكن ليسنغ يجابه في كتابه نقد الشاعر الألماني، ويعتقد أن للشعر قواعده الخاصة، وللنحت قواعده الخاصة، ويرى أن في استطاعة الفن الشعري أن يمثل لنا الشيء حتى نحدق به من جوانبه. بينا أن الفن الثاني لا يمثل لنا من هذا الشيء إلا لحظة موقوتة هي كل شيء في هذا الشيء. وبينما نرى الرسم يخضع للهيئة الجامدة التي يتلبس بها نرى الشعر حرا طليقا يحيا بحركته واضطرابه واختلافه. وهكذا لبث هذا الكتاب أثراً ناطقاً للرجل، وقد ترك وراءه صدى بعيدا وتأثيرا ترامى في الأقطار. وهو كما قال فيه (جوته) شاعر الألمان يجب أن تكون فتى أيها الكتاب في أرواحنا وكفى بهذه الكلمات التي يرددها جوته شهادة.

وهكذا أراد ليسنغ أن يبني نقده على نظريات ثابتة لا يذهب بها الوهم. فاستمد قانون (أرسطو) يعمل به لتنظيف الأهواء. ومن هذا القانون قد استمد ليسنغ أكثر نظراته التقدية كأنما كان يحاول أن يقتل الحدة والجموح والطيش في الأدب ويترك إلى العقل سبيلاً ينفذ منه ليبقى مالكا على الأهواء في أعنف ثوراتها. وقد شاء ليسنغ أن يغزو حقل الأخلاق دأبه في كل حقل يغزوه، فكتب مقطوعات في الحكمة دلت على سمو نفسه. فهو يعتقد أن قيمة الرجل ليست بالفضيلة التي يحرزها، أو بالفضيلة التي ظن أنه يحوزها، ولكن قيمته تنحصر في الجهود التي يقوم بها في سبيل إحرازها، لأن المجد لا يتوقف على صفة الاحراز، ولكن على العمل للفضيلة التي يكثر به جنودها. ويعتز هو بانتصارها. ويقول أيضاًإذا الله قبض على الفضيلة الكاملة بيده اليمنى ووضع في يده اليسرى التوق الخالد - توق القلب - الى الفضيلة. مازجا معه انخداع الانسان؛ وقال لي: انتخب، فانني إذ ذاك آخذ بيده اليسرى بكل تواضع وأقول. أعطني ياإلهي. . . لأن الفضيلة الكاملة التي وضعتها في يمينك لم تصنع إلا من أجلك وقد ولَّدت عنده هذه الحكمة حكمة دينية أبداها في بعض مقاطيع صغيرة. حيث أبدى أن الوحي الإلهي ليس بواحد ولا بثابت ممتنع عن التغير. ولكنه يتنوع ويتقلب ويتقدم كالإنسانية نفسها. وقد أدرك ليسنغ الذروة العالية في روايته (الحكيم ناتان) اذ أعلن أن الحكيم الحقيقي هو الذي يتروض على الفضيلة ويخضع لأحكام العناية الإلهية الخالدة.

لقد فهم رجال الأدب بعض جوانب هذا الرجل العظيم، ولن تظهر عظمته واضحة إلا بعد

<<  <  ج:
ص:  >  >>