يرقى الأدب الإنجليزي مثلا) فلا يفهمه إلا الراقون، ولكن بجانبه أدب إنجليزي شعبي، لا يختلف عن أدب الخاصة في ألفاظه وتراكيبه وإن اختلف في دقة المعنى وبساطته، (أما الأدب العربي فأدب خاص لطائفة المتعلمين تعلماً راقياً فحسب، لا يشاركهم فيه العامة وأشباه العامة، وللعامة أدب بلدي خاص، يستمتعون به في أغانيهم ونكتهم وزجلهم وموالياتهم) وحتى الخاصة، لا يتذوقون الأدب العربي إلا في الكتب والمجلات والجرائد، أما أحاديثهم وتنادرهم وفكاهاتهم فباللغة العامية، وليست أمة من الأمم الحية الآن بين لغتها اليومية ولغتها الأدبية من الفروق ما بين اللغة العربية واللغة العامية.
نتج من هذه الظاهرة نقص كبير في الأدب العربي الحديث، لأن استعمال الكلمات والعبارات في البيت وعلى المائدة وفي الشارع يكسبها حياة قوية ويزيدها صقلا ومرونة، ولو اقتصر في استعمالها على الكتب كانت حياتها ناقصة، لا يهذبها الاستعمال ولا يرقيها الصقل اليومي. وحسبك دليلا على ذلك أن النكت والنوادر وهي من أهم أركان الأدب لا تجد منها سائغا عذبا في أدبنا العربي عشر معشار ما تجده في الأدب العامي، وأن النادرة تحكي بالعامية فتضحك إلى أقصى حد، ثم تحكيها باللغة الفصحى فتخرج باردة تافهة، وأن كثيراً من الألفاظ والتعبيرات العامية قد أفادها الاستعمال روحا قوية فإذا عبرت عنها بالعربية لم تجد لها من التعبير قوة العامية وحسن دلالتها على المعنى.
وكل أمة قد كسبت من توحيد لغتها الكلامية والكتابية ما لا يقدر، فقد أصبح الشعب كله منتجا أدباً وتعبيراً قويا، وأصبح الحديث عن المائدة وفي حجرة الجلوس وفي التمثيل والسينما يخرج أدباً جديداً ويحيي أدباً قديماً، والأمة كلها تتعاون في الإنتاج الأدبي، هذا بتعبيره الرقيق، وهذا بنكتته ونوادره، وهذا بقصته وأمثاله، وهذا بشعره، وهكذا.
وليس كذلك الحال في الأدب العربي، فالأمثال والنوادر والحكايات باللغة العامية، والأحاديث اليومية وقضاء كل شؤون الحياة باللغة العامية، وليس للغة العربية إلا الكتاب وما إليه، ولذلك أصبح عندنا أدبان أدب أرستقراطي هو هذا الشعر والكتب التي تؤلف، والمجلات والجرائد التي تنشر، وأدب شعبي هو الزجل والأغاني والحواديت وما إليها، وبين الأدبين فواصل كبيرة وحواجز متينة، وفي هذا ضرر كبير على الأمة والأدب معاً، أما الأمة فلأن شعبها لا ينتفع بنتائج المتعلمين منها، وأما الأدب فلأنه ليس أدباً صحيحاً، إذ