وهكذا حتى تذهب بهجتها، وتفقد سعادتها، وتزول حرمتها، وتختفي قداستها.
وليس البشر - وإن حرصوا - بقادرين على أن يستبدلوا بالدار معهداً للتربية والتهذيب، ولا بقادرين على أن ينشّئوا في غير الأسرة عواطفها وأخلاقها وتعاطفها وتراحمها، وتآلفها وتعاضدها، وفداءها وإيثارها.
وإن زالت حرمة البيت، وضعفت عواطفه، وطغت المادة على روحانيته، فجعلناه مكاناً من الأمكنة التي نقسم بينها الليل والنهار، وعدلنا به الطريق والمقهى والملهى، وصارت عواطف الوالدين والأولاد واجبات تؤدى على كره، وأعمالا تتصل بالأعضاء أكثر مما تتصل بالقلوب - فقد حُرِمنا الخير كل الخير، وأصبنا الإنسانية في صميمها، وقضينا على الأخلاق في منابتها، وعلى السعادة في مهدها.
ولو أتت المدنية الحاضرة بكل صناعة وكل علم وكل نظام وكل متاع، وذهبت بسعادة البيت، فقد باءت بالخسار، وعملت للبوار.
ولو جاءت الشيوعية بكل طعام وشراب لكل إنسان بغير عناء، ومتَّعت الإنسان بكل متعة، ويسرت له كل لذة، ثم حرمته أسرته، وسلبته رحمة الوالدين وبر الأولاد، وعواطف الأمومة والأبوة والبنوة، وأبعدته من ظلال البيت الوارفة، وأفيائه العاطفة، وموارده الصافية، لكانت قد ربَّت له الجسم وسلبته الروح، وهيأت له الصورة وأخذت الحقيقة، ووفرت له لذات جثمانية قليلة ضيقة، وباعدت بينه وبين لذات الروح التي لا تُعد ولا تُحد، ولكانت قد ردته حيواناً لا إنساناً، ويسرت له العلَف وسلبته الإنسانية!
الأسرة حُوطوها بكل رعاية، وأحكموا أواصرها، ووفروا بركاتها، وادفعوا عنها كل ما يخل بسعادتها وطهارتها وقداستها، وزودوها بالعلم النافع والتربية الصالحة.
إني أرى الأم تُخدع عن سلطانها في البيت، وتُنزل عن عرشها في الأسرة، وتُضلل عن منزلتها، وتُفنن عن واجبها، فيقال لها: دعي البيت إلى السوق، واهجري الأولاد إلى المصنع، اتركي تدبير الأسرة إلى تدبير الشئون العامة.
وأرى الوالد يستبدل بداره الأندية، وبأسرته جلساء المقاهي، ويسهو عن كثير من تبعاته.
وأرى الولد يقسو على والديه، ويلقى بالغلظة أبويه، ويطلب بحقه ويحاسب عليه، ويعصي الوالدين أحياناً ويطيعهما أحياناً.