انتزعت من حياتها تلك الأفكار. أليس مثلهم مثل الطبيب الذي يأتيه المريض وقد هد جسمه الداء فلا يستأصل شأفة المرض، وإنما يصبغ وجه المريض باللون الأحمر، وكفى الله المؤمنين القتال؟
والنكسات الروحية والخلقية والقومية التي تصاب بها الأمم والشعوب من حين إلى آخر في سير الزمن لا تمس جوهر الروح في تلك الأمم والشعوب، بل لعلها تجدد شبابها وتخلع عليها أبراداً قشيبة من اليقظة فتفيق من سباتها وتعاود السير من جديد، عزيزة الجانب، قوية الخلق، متحدة كالبنيان المرصوص.
والكسب المادي، والأشخاص الذين حرمهم الله نعمة الذوق الذي لا تعلمه الكتب والجامعات، والذين في نفوسهم مرض - كل ذلك وهؤلاء لا يزيدون في نظر الواقع على غبار تثيره أقدام الأمة في مسالك الحياة دهى سائرة إلى غايتها البعيدة.
ولعل شر فئة من هؤلاء المستغربين تلك الفئة الخاملة الجاهلة التي تعيش في الحياة كالنباتات الطفيلية على أفكار غيرها من مرضى الضمائر ومعتلي النفوس، فقد يضمك مجلس مع جماعة فينبري منها من يكيل الثناء لشكسبير لأنه غربي، ويطعن في المتنبي لأنه شرقي، حتى إذا حز في نفسك هذا المسلك وطلبت منه تحديد النقد وتقديم الأمثلة، تكشف لك عن عامية مغرقة في الجهل، لأنه لم يقرأ للمتنبي، ولم يعرف لغة شكسبير، وإنما كل ما في الأمر أنه يقلد التقليد الأعمى ليضاف إلى قائمة أصحاب الرأي الحر الذين يهدمون بيوتهم ليبنوا من حجارتها بيوتاً للآخرين.
وفي كل قطر عربي مجموعة من هؤلاء المستغربين يحملون الإجازات الدراسية العالية وقد مكنت لهم تلك الدراسات من الجلوس على المقاعد الأمامية في رواية الحياة وتوجيه الأجيال المقبلة التي تضع الأمة العربية آمالها وأحلامها فيها.
ومن رعاية الله لهذه الأمة أن جعل في جذورها الغضة التي تستمد حياتها إلى الغد المجهول قوة شديدة تقاوم تلك الرياح اللافحة، وجعل في كنانته جنوداً يذودون عن المجد التليد والدين الحنيف والتاريخ المشرق، ولا تأخذهم في الحق لومة لائم، ومكن (لرسالته) في النفوس.